بنت أبي بكرة ، عن أبيها ، روى عنه معتمر بن سليمان".
2- وهذا ابن ما كولا يقول في "الإكمال" (7/141):" أما كورين - بعد الكاف المضمومة واو ، ثم راء -: فقال عبدالله بن أحمد: سألت أبي عن أبي عبيدة الذي روى عنه معتمر ، يحدِّث عن جابر بن زيد(4)، فقال : اسمه عبدالله بن القاسم، يقال له: كورين".
3- وهذا الحافظ الذهبي ذكر في "المقتنى" عددًا ممن يكنى : أبا عبيدة، وذكر منهم (1/383 رقم3993):" عبدالله بن القاسم ، بصري ، عن صالح الدهان".
4- وهذا الحافظ ابن حجر في " نزهة الألباب في الألقاب " (2/129) يقول: "كورين هو أبو عبيدة البصري ، واسمه : عبدالله بن القاسم ، شيخ لمعتمر بن سليمان". ويقول في "لسان الميزان" (7/79):" أبو عبيدة هو عبدالله بن القاسم ". وقال أيضًا في موضع آخر (3/326):" عبدالله بن القاسم أبو عبيدة ، روى عنه المعتمر بن سليمان ، قال ابن المديني :" مجهول "، نقلته من خط ابن عبدالهادي". وهذا ما ذهب إليه أبو حاتم الرازي ، وابنه عبدالرحمن ، والدولابي في "الكنى"؛ كما نقله عنهم الظافر في مقاله، ثم قال - أي : الظافر -:" هذا ما قاله علماء الجرح والتعديل . وملخص ما قالوه : أن أبا عبيدة بصري ؛ إذ يروي عنه معتمر والبصريون - أنه يروي عن ضمام عن جابر بن زيد - وروى عن عمارة بن حيان، عن جابر بن زيد ، وروى عن صالح الدهان عن جابر بن زيد ، وقد مضى أن هؤلاء الثلاثة من شيوخ أبي عبيدة ، وهم كلهم إباضية . وأما تسمية أبي عبيدة بعبدالله
القاسم فهو خلط بينه وبين أبي عبيدة الصغير أحد أعلام الإباضية توفي حوالي سنة 170 هـ، وهو من طبقة تلامذة الإمام أبي عبيدة مسلم، وأبو عبيدة عبدالله بن القاسم ليس راوية للحديث خلافًا لأبي عبيدة مسلم الفقيه الراوي . وعليه فمن سمى أبا عبيدة مسلمًا بعبدالله القاسم قد عرفه ذاتًا وجهله اسمًا ، وعليه يحمل قول ابن معين :" أبو عبيدة لم يسمع من جابر بن زيد ، عن رجل عنه " فهذا أبو عبيدة الصغير ، أما أبو عبيدة الإمام فقد لازم جابرًا ملازمة طويلة . وأما تلقيبه بكورين فالظاهر أن ذلك لقب لأبيه أبي كريمة " اهـ.
وإني لأعجب من هذه الجرأة من الظافر التي جعلت منه رجلاً كأن الله نشر له الخليقة منذ خلق آدم عليه السلام إلى عصرنا هذا ، فاطلع عليهم اطلاعة استطاع معها أن يكتشف في هذا الزمن خطأ الإمام أحمد وابن معين قبل ما يقرب من مائتي سنة وألف سنة !! ويكتشف معه خطأ الأئمة الآخرين الذين ذهبوا هذا المذهب كأبي حاتم وابنه والبخاري والدولابي وابن حبان وابن ماكولا والذهبي وابن حجر!!
وليت هناك من سبقه إلى هذا - ولو كان مخطئًا - لكان الأمر أهون ، أما أن يعمد إلى رجل اتفق الأئمة كلهم على وصفه بوصف يفارق به الإباضي ، فيخطئهم كلهم ، ويرى أنه الإباضي ، فهذا غير مقبول مع وجود هذه المفارقات :
1- فالذي تكلم عنه الأئمة اسمه عبدالله بن القاسم ، والإباضي اسمه مسلم بن أبي كريمة .
2- والذي تكلم عنه الأئمة لقبه : كورين - أو رزين -، والإباضي لا يعرف بهذا اللقب ، ولو كان معروفًا لنقله الظافر ، أو القنوبي من كتب الإباضية .
3- الإباضي يروي مباشرة عن جابر بن زيد ، بل يعتبره الإباضية وارث علومه ، ويرون أنه قاد الحركة الإباضية بعده ، وهذا مسند الربيع بن حبيب قلّما تجد فيه حديثًا من رواية غير أبي عبيدة عن جابر. بينما الذي تكلم عنه الأئمة يرونه لم يسمع من جابر بن زيد ، وإنما يروي عنه بواسطة ضمام، أو عمارة بن حيان ، أو صالح الدهان ، بل صرح بذلك يحيى بن معين حين قال : "أبو عبيدة لم يسمع من جابر بن زيد ، عن رجل عنه".
ومن عانى صنعة الأسانيد ، ومعرفة الرجال يعلم أن الأئمة يفرقون بين الراويين بأقل من هذا بكثير .
وقد اعترف الظافر بأن هناك إباضيًّا يكنى : أبا عبيدة ، واسمه عبدالله بن القاسم ، ولم يسمع من جابر بن زيد ، فهو غير أبي عبيدة شيخ الربيع بن حبيب، ويعرف عندهم بأبي عبيدة الصغير ، ولكن يرى أنه ليس له رواية للحديث ، ولذلك عمد إلى سلبه كل هذا التعريف الذي حُظي به ؛ ليمنحه شيخ الربيع بن حبيب المتقدم عن هذا زمنًا ، والمفارق له اسمًا ولقبًا ، لا لشيء ، إلا ليدفع عنه وصف الجهالة الذي ذكرته عنه أنا وغيري .
وأنا لا أجزم بأن أبا عبيدة الصغير هذا هو عبدالله بن القاسم الملقب: كورين ، الذي تكلم عنه الأئمة، ولا أنفي ذلك ، فإذا كان الظافر يعرفه ، فإن تنزيل كلام الأئمة عليه يكاد يكون مقبولاً ؛ بحكم الاشتراك في الاسم، والكنية ، والطبقة ، ودفع ذلك بحجة أنه ليس راوية للحديث غير مقبول ، فعدم العلم ليس علمًا بالعدم ، وقد يكون الراوي مقلاًّ من الرواية ، فيظن أنه غير راوية لقلّة روايته .
وصنيع الظافر هنا يذكرنا بصنيع سعيد بن مبروك القنوبي - الذي سبق ذكره -؛ حين نقل النص من كتاب "العلل" لعبدالله بن أحمد وأسقط منه جميع الدلائل التي تدل على أن أبا عبيدة الذي تكلم عنه الإمامان - أحمد وابن معين - رجل آخر غير مسلم بن أبي كريمة ، وهكذا تكون الأمانة !!
ثانيــًا : ذكر الأئمة : البخاري ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان - كما نقل الظافر - ذكروا رجلاً يقال له :" مسلم بن أبي كريمة " يروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فزعم الظافر أنه أبو عبيدة الإباضي ، وأنه الذي أخطأ الأئمة فسموه عبدالله بن القاسم ، فجمع بين هذا الذي يروي عن علي رضي الله عنه ، وبين ذاك الذي روى عنه معتمر بن سليمان ، والذي لم يسمع من جابر بن زيد التابعي، فضلاً عن أن يكون أدرك عليًّا رضي الله عنه . وكما قلت سابقًا : في دعوى لم يسبقه إليها أحد فيما علمت ، إلا أن يكون إباضيًا مثله! والظاهر أن الظافر لا يتقبل أن يسمى أحد " مسلم بن أبي كريمة " سوى إمامهم الإباضي ! وإلا فالفرق واضح ، فأين يكون الذي يروي عن علي رضي الله عنه – وهو متـوفى ســنة 40 هـ -، من الـذي يروي عن جابر بن زيـد - وهـو متـوفى ســـنة 93 هـ، أو 103 هـ -؟ وأين يكون هذان من عبدالله بن القاسم الذي لم يسمع من جابر بن زيد؟
والأعجب من هذا أن مسلم بن أبي كريمة الذي يروي عن علي رضي الله عنه شيعي ، وصاحبهم إباضي !!
يا أيها الْمُنْكِحُ الثُّـريّا سُـهيلاً عَمركَ الله كيف يلتقيان؟
هـي شــامية إذا مـا اســتقلّت وسـهيل إذا اسـتقلّ يماني!
ولذلك لما ذكر ابن حبان هذا الرجل وآخرين مثله ، قال في "الثقات": (401/5) إلا أني لست أعتمد عليهم ، ولا يعجبنـي الاحتجاج بهم ؛ لما كانوا فيه من المذهب الردي " - يعني التشيع كما نقله الظافر عن ابن حجر -. وقد قال أبو حاتم عن هذا الرجل : "مجهول" كما في نقل الظافر. وذكره ابن الجوزي في "الضعفاء والمتروكين" (3/118 رقم3311) فقال :" مسلم بن أبي كريمة ، قال الرازي : مجهول". وقال الذهبي في "الميزان" (6/419):" مسلم بن أبي كريمة ، عن علي ، مجهول". وكذا قال في "المغني" (2/656). وقال ابن حجر في "اللسان" (7/91):" وذكره ابن حبان في "الثقات" قال : إلا أني لا أعتمد عليه - يعني لأجل التشيع – "
وأخيرًا قل لي أيها الظافر : هل الحق معك أو مع القنوبي حيث يقول في كتابه "الإمام الربيع بن حبيب مكانته ومسنده " (ص 32):" على أن مسلم بن أبي كريمة الذي حكم بجهالته أبو حاتم غير الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة قطعًا ؛ لأن مسلمًا الذي ذكره أبو حاتم يروي عن الإمام علي، وأبو عبيدة الإمام راوي المسند عن الإمام جابر لم يرو عن علي شيئًا ، بل لم يكن أبو عبيدة مولودًا في حياة علي ، والله أعلم " ا.هـ؟
هذا إن كنتَ غير القنوبي ، وإن كانت الأخرى .... !!
وللحديث بقيـة .
تنبيـه : عقب فراغي من هذه المقالة ، أُخبرت بأن الظافر كتب مقالة يبدي فيها استعداده للحوار العلمي الهادئ ، وأنا في انتظار كتاباته ، وإن كنت أفضل تريُّـثه حتى أفرغ من مقالاتي ، وأسأل الله لي وله ولجميع المسلمين الهداية والتوفيق .
الردُّ الثالث للشيخ سعد الحميّد على ردود الظافر
في يوم 12/5/2000م قام المدعو "الصارم المسلول" بنشر الردّ الثالث من سلسلة ردود سعد الحميّد على ردود الظافر. وقد نشر الموضوع في المنتدى الإسلامي لمنتدى أنا المسلم. يمكن الرجوع إلى الوصلة التالية لقراءة الموضوع الأصلي:http://vip1.org/ubb/Forum1/HTML/002759.html
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعـد :
فاستكمالاً لكلامي السابق عن :"مسلم بن أبي كريمة " الذي يروي عن علي رضي الله عنه ، أقول : إن الظافر ذهب ينفي عنه صفة التشيع ؛ ليسلم له القول بأنه الإباضي ، محتجًّا في ذلك بالآتي :
أ - أن ابن حبان لم يصرح بمذهب هذا الراوي ، وإنما هو تفسير من ابن حجر لكلامه، ولعله بسبب نظره إلى روايته عن علي رضي الله عنه جعله لذلك شيعيًّا .
ب - كلام الناصر الشيعي الزيدي يدل على أن مسلم بن أبي كريمة الذي ذكره في كتابه ليس شيعيًّا، بل يفيد أنه الإمام الإباضي ، هذا عدا كلام الجاحظ في أن أبا عبيدة مسلمًا من علماء الإباضية ورواتهم .
هذا الذي احتج به الظافر لنفي صفة التشيع عن هذا الراوي ، وهو كما ترى مبني على التسليم بأن ليس في الوجود من يسمى مسلم بن أبي كريمة سوى أبي عبيدة الإباضي ، فهل يا ترى لا يمكن أن يسمى عمر بن الخطاب سوى الخليفة الراشد، فيكون أصحاب كتب التراجم أخطأوا حين ذكروا أن هناك عمر بن الخطاب المتوفى سنة 264 هـ، وغيره ؛ كما تجده في "التقريب" (ص 717 رقم 4921و4923) وباقي كتب الرجال.
وأما قول ابن حبان :" لما كانوا فيه من المذهب الرديء "، وتفسير ابن حجر له بقوله : " يعني التشيع"، فهذا هو الصواب ؛ فإن أئمة الجرح والتعديل اصطلحوا على أن هذه العبارة ومثيلاتها تدل على وصف الراوي بالتشيع .
1- فهذا أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب السعدي الجوزجاني يكثر من استخدام هذه اللفظة ومثيلاتها في حق الشيعة ، حتى اتهم بأنه ناصبـي ، وأنه غلا في القدح في بعض الرواة الموصوفين بالتشيع ، ومن أمثلة استخدامه لهذه اللفظة :
أ - قوله في كتاب "الشجرة في أحوال الرجال"(ص 212 رقم209):" بريدة بن سفيان بن فروة رديء المذهبت".
ب – وقال (ص350رقم387):" محمد بن حميد الرازي كان رديء المذهب غير ثقة".
جـ - وقال (ص 351 رقم388):" علي بن مهران الطبري كان رديء المذهب".
وجميع هؤلاء الرواة موصوفون بالتشيع .
2- أبو أحمد عبدالله بن عدي الجرجاني: قال في "الكامل" (5/168):" وعثمان بن عمير أبو اليقظان هذا رديء المذهب، غالٍ في التشيع ، يؤمن بالرجعة".
3- يحيى بن منده: نقل عنه الذهبي في "السير" (17/516) قوله :" كان ابن فاذ شاه صاحب ضياع
كثيرة، صحيح السماع ، رديء المذهب ". قال الذهبي :" قلت : كان يُرمى بالاعتزال والتشيع ". وانظر "لسان الميزان" (1/363 رقم 827).
4- أبو عبدالله محمد بن عبدالله الحاكم النيسابوري: قال في "المدخل إلى الصحيح" (ص125):" تليد بن سليمان المحاربي ، وكنيته أبو إدريس ، رديء المذهب ، منكر الحديث". وتليد هذا قال عنه أبو داود :" رافضي خبيث ، رجل سوء ، يشتم أبا بكر وعمر"؛ كما في "تهذيب التهذيب" (1/258). وقال عنه ابن حبان في "المجروحين"(1/204):" كان رافضيًّا يشتم أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم".
5- أبو نعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني: قال في مقدمة "المستخرج على صحيح مسلم" (1/66 رقم77):" زياد بن المنذر، أبو الجارود الكوفي ، الثقفي ، صاحب المذهب الرديء". وزياد هذا قال عنه ابن حبان في "المجروحين" (1/306): " كان رافضيًّا يضع الحديث في مثالب أصحاب النبي".
6- أبو القاسم عبدالواحد بن علي الأسدي: نقل عنه الخطيب في "تاريخ بغداد" (6/380) قوله عن إسحاق بن محمد بن أبان النخعي :" كان خبيث المذهب ، رديء الاعتقاد ؛ يقول : إن عليًّا هو الله جل جلاله".
7- أبو القاسم عبيدالله بن أحمد الأزهري: نقل عنه الخطيب أيضًا (7/299) قوله عن الحسن بن الحسين القاضي :" كان النوبختي رافضيًّا رديء المذهب".
8- الذهبي محمد بن أحمد بن عثمان. تقدم نقله لكلام ابن منده وتفسيره له . وقال في "الميزان"(1/136 رقم546):" أحمد بن محمد بن فاذ شاه ، صاحب الطبراني، سماعه صحيح ، لكنه شيعي معتزلي ردي المذهب ". وفي "السير"(16/149) ذكر العبيدي المغربي، فقال :" فغلب المغربي بالشام ، وأظهر المذهب الرديء ..." ، إلى أن قال :" قلت: لا يوصف ما قلب هؤلاء العبيدية الدين ظهرًا لبطن ، واستولوا على المغرب ، ثم على مصر والشام ، وسبوا الصحابة". وانظر أيضًا "تاريخ بغداد" (5/127)، و"الضعفاء" لابن الجوزي (2/215-216 رقم 2502)، و"ميزان الاعتدال" (3/220و222و376 رقم 6194و6207و6826)، و"لسان الميزان" (5/314 و317 رقم 6206و6217)، و(6/44 رقم6724)، و"تهذيب التهذيب" (71/1) ، فقد أطلقت هذه العبارة في هذه المواضع على رواة لم يتحدد لي مذهبهم .
ولم أقف على كلام لأحد من أئمة الجرح والتعديل أطلق فيه قوله :" المذهب الرديء " على مذهب الخوارج(1)- أو أي فرقة منه(2)-، أو قال عن أحد رجاله: " رديء المذهب "، فإن كان الظافر وقف على شيء من ذلك فليتحفنا به لنستفيد ، وكان الأولى بمثله الفخر بتفضيل أهل السنة لمذهبه على التشيع والرفض ، لا أن يسعى في مذمّته بإلحاق من ليس منه بـه ، وأذكره بقوله – صلى الله عليه وسلم – (( ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ))، وبقوله – صلى الله عليه وسلم -: (( لا ترغبوا عن آبائكم ، فمن رغب عن أبيه فهو كفر )). رواهما البخاري ومسلم. ورويا أيضًا عن أبي عثمان النهدي قال : لما ادُّعي زياد ، لقيت أبا بكرة فقلت له : ما هذا الذي صنعتم ؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : سمع أذناي من رسول الله وهو يقول : (( من ادَّعى أبًا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه ، فالجنة عليه حرام ))، فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله .
وأما استدلال الظافر بكلام الجاحظ المعتزلي ، وأحمد بن يحيى الناصر الزيدي ، في إثبات وجود شخص أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، فأجيب عنه بالآتي :
أولا : الجاحــظ :
نقل عنه الظافر أنه قال في "البيان والتبيين" (1/523):" ومن الخوارج وعلمائهم ورواتهم : مسلم بن كورين ، وكنيته : أبو عبيدة ، وكان إباضيًّا ، ومن علماء الصفرية ". وفي موضع آخر (2/907) قال : " ومن علمائهم : مليل ، وأصغر بن عبدالرحمن ، وأبو عبيدة كورين ، واسمه مسلم ، وهو مولى لعروة بن أذينة".
ويرى الظافر أن هذا الذي ذكره الجاحظ هو أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة شيخ الربيع ابن حبيب ، وتلميذ جابر بن زيد ، ويضم هذا النص مع النصوص السابقة التي ذكر فيها الإمام أحمد ويحيى بن معين وغيرهما أبا عبيدة عبدالله بن القاسم الملقب بـ" كورين "، ويستدل به على صحة دعواه : أن الإمام أحمد وابن معين وغيرهما ممن سمى كورين هذا : عبدالله بن القاسم قد عرفه ذاتًا وجهله اسـمًا. وعليه أقول :
1- بخٍ بخٍ !! جهل هذا الرجل الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، والبخاري، وأبو حاتم الرازي ، وابنه عبدالرحمن ، والدولابي ، وابن حبان ، وابن ماكولا، والذهبي ، وابن حجر ، وعرفه إمام الجرح والتعديل الجاحظ!! هداك الله أيها الظافر !
2- تنقل كتب تراجم علماء الإباضية ترجمة وافية لأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ؛ كالسير للشماخي وغيره ، ولاحظت من خلال قراءتي في بعضها الآتي :
أ - لم يلقب أبو عبيدة فيها بـ" كورين "، ولا أبوه .
والأخ الظافر يعلم غرابة مثل هذا اللقب، إلى حدّ أن الزبيدي ذكره في "تاج العروس" (14/80) في مادة " كور "، فقال :" وكورين - بالضمّ -: شيخ أبي عبيـدة، وكـوران - بالضمّ -: قرية ؛ كما في "التكملة". قلت : وهو عبدالله بن القاسم، ولقبه : كورين ، وكنيته : أبو عبيدة ، من شيوخ أبي عبيدة معمر بن المثنى ، وقد روى عن جابر ابن زيد".
وقال في "التكملة" (3/133):" وكورين - بالضمّ -: لقب أبي عبيدة عبدالله بن القاسم ، من شيوخ أبي عبيدة معمر بن المثنى ، وقد روى عن جابر بن زيد ، هكذا ذكره الصنعاني. والذي حققه الحافظ(3): أن الذي سمع منه أبو عبيدة هو : مِسْمَعُ بن كُرْدين – بالدال –". فإذا كان هذا الرجل هو أعظم شخصية عند الإباضية بعد جابر بن زيد ، فلا شك أن الدواعي متوافرة لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عنه ، فكيف يعرف غير الإباضية – من أهل السنة وغيرهم - عن هذا الرجل هذا اللقب الغريب ، ولا يعرفه أهل مذهبه ؟ ؟ !!
فشهرة أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة عند الإباضية أعظم بكثير من شهرة عبدالرحمن ابن هرمز الأعرج وسليمان بن مهران الأعمش عند أهل السنة . وغرابة لقب " كورين " أشد من غرابة لقب " الأعرج " و" الأعمش"، ومع هذا فلا تكاد تجد في الأسانيد قولهم :" عن عبدالرحمن بن هرمز "، أو :" عن سليمان بن مهران "، وإنما يقولون :" عن الأعرج "، و :" عن الأعمش "، غلب عليهما هذا اللقب. فأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة على شهرته العظيمة عندكم ، وغرابة لقبه ، لا تذكر عنه كتب التراجم عندكم هذا اللقب !!
3- وتبعًا لاستغرابي في الفقرة المتقدمة يتواصل استغرابي لولاء أبي عبيدة. فكتبكم تذكر أنه مولى لبني تميم ، والجاحظ قال :" وهو مولى لعروة بن أذينة". وعروة بن أذينة ليثي ؛ كما في "الجرح والتعديل" (6/396 رقم2212)، وأين ليث من تميم ؟! وكأني بك ستقول : ما وقع في كتاب الجاحظ تصحف فيـه " عروة بن أديّة " إلى "عـروة بن أذيـنة "؛ فقد جــاء في إحدى نســخ "البيان والتبيـين" كذلك كما ذكر المحقـــق عبدالسلام هارون في حاشيته (3/265)، وقد ذكر القنوبي في كتابه - "الإمام الربيع بن حبيب مكانته ومسنده "-(ص 26) أنه كان مولى لعروة بن أُديَّة التميمي ، وأسند هذه المعلومة للشيخ أحمد الخليلي . وهذا غير مستبعد ، لكن باقي نسخ كتاب الجاحظ جميعها اتفقت على :" أذينة"، وكذا جاء في جميع طبعات الكتاب ، ومنها الطبعة التي أحلت إليها في عزوك ، ولذا أعرض عبدالسلام هارون - على قوّة تمكنه ومعرفته - عن هذا الخلاف ،وأثبت :" أذينة". ولم أجد فيما اطلعت عليه من كتبكم - على قلّتها عندي - أنه نسب ولاؤه لعروة بن أُديَّة أخي مرداس بن أُديَّة التميمي ، سوى ما ذكره القنوبي عن الشيخ الخليلي، فإن وجدت شيئًا من ذلك ، فأكون شاكرًا لك في تصحيح هذه المعلومة .
وأما الشيخ الخليلي فمتأخر ، وأنت تعلم أن كلاًّ سيتساءل ببساطة : من أين استقى الشيخ الخليلي هذه الفائدة؟ وفي ظني أنه اعتمد على ما جاء في كتاب الجاحظ ، وترجيحه للنسخة الشاذة، إلا أن تفيدنا بمعلومة موثقة من أحد كتبكم القديمة ، فإن لم تجد فيعود الاستغراب مرة أخرى : رجل له هذه المكانة عندكم يعرف عن ولائه غيركم أكثر من معرفتكم ؟
وثمرة هذا كله : هل هذا الذي ذكره الجاحظ هو : أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة شيخ الربيع بن حبيب أو لا ؟ أما أنا فلا أجد دليلاً مقنعًا يدل على أنه هو ، وأما أنت فشأنك .
وللحديـث بقيــة .
الردُّ الرابع للشيخ سعد الحميّد على ردود الظافر
في يوم 19/5/2000م قام المدعو "الصارم المسلول" بنشر الردّ الرابع من سلسلة ردود سعد الحميّد على ردود الظافر. وقد نشر الموضوع في المنتدى الإسلامي لمنتدى أنا المسلم. يمكن الرجوع إلى الوصلة التالية لقراءة الموضوع الأصلي:http://vip1.org/ubb/Forum1/HTML/002947.html
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعـد :
فاستمرارًا مع الظافر في مناقشة ذكر بعض الكتب لأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، وبعد الفراغ من الكلام عن "البيان والتبيين" للجاحظ ، نأتي للكلام عن :
ثانيـًا : أحمد بن يحيى الناصر الزيدي .
نقل عنه الظافر قوله في كتاب " النجاة " (ص 337): « فصار الذكر هو الرسول ، وهذا ما لم يدفع، فصار أهل البيت عليهم السلام المأمور الخلق بسؤالهم ، ولم يكلفوا أن يسألوا عبدالله بن يزيد البغداذي ، ولا عبدالرحمن بن خليل ، ولا عبدالكريم بن نعيم ، ولا مسلم بن أبي كريمة ، ولا عبدالصمد ، ولا المعلم ، ولا نجدة بن عامر ، ولا أبا مؤرج السدوسي". وبالرجوع إلى الكتاب المذكور وجدت أن محققه المستشرق :" فيلفرد ماديلونغ " وضع كلمة " أبي" بين معكوفين ، ولم يعلق عليها . وقدم للكتاب بمقدمة باللغة الألمانية ذكر فيها اعتماده على نسختين خطيتين ، إحداهما نسخة مكتبة ميونيخ ، والأخرى نسخة جامع صنعاء باليمن . وظهر من خلال عمله إثباته لفروق هاتين النسختين ؛ حيث رمز لنسخة ميونيخ بالرمز "م"، ولنسخة جامع صنعاء بالرمز "ص"؛ إلا أن هناك بعض المواضع يضع فيها أحيانًا بعض الجمل أوالكلمات بين معكوفين ويشير إلى أن ما بين المعكوفين ساقط من النسختين ؛ كما تجد أمثلته في (ص 73 حاشية 13)، و (ص 82 حاشية 4 و 6)، و (ص 92 حاشية 13) و(ص 94 حاشية 4 ) وغيرها . ولكنه في مواضع أخرى لا يذكر شيئًا عما جعله بين معكوفين ؛ كما تجد أمثلته (ص50 و 59 و 106 و 108 و 128 ) وغيرها ، ومن ضمنــها كلمـة " أبي " في النـص الذي نقله الظافر ( ص 337 ). وفي ( ص 25 حاشية 6 ) ذكر أن قوله :" قل " ساقط من النسختين ، ثم قال :" ثم أضيفت في م بغير خط الناسخ ". وأما إذا رأى الكلمة متصحفة في النسختين فإنه يصوبها ، ولا يضع ذلك بين معكوفين؛ كما تجد أمثلته في مواضع كثيرة ؛ منها (ص 82 حاشية رقم 9 و 20 )، و (ص83 حاشية رقم 1 و2 و4 و5)، و (ص 84 حاشية رقم 3)، وغيرها .
وثمرة ما مضى : أن صنيعه هذا يدل على أن النسختين اللتين اعتمدهما في تحقيقه اتفقتا على أن اسم هذا الرجل :" مسلم بن كريمة "، لا "مسلم بن أبي كريمة". وقد بذلت الجهد - ولازلت - في البحث عن النسختين الخطيتين أو إحداهما لأقف على العبارة في النسخة بنفسي ، حذرًا من أن يكون " كورين " تصحف على هذا المستشرق إلى " كريمة "، أو تكون الكلمة تناولتها يـد غير يـد الناسخ بالتعديل ، كما يدل عليه كلام هذا المستشرق في مقدمته ، وفي بعض التعليقات على الكتاب، منها ما سبق نقله، ومنها في (ص 284 حاشية 21 )، حيث ذكر المحقق أن بعض الكلام شطب في نسخة صنعاء ، وكتب في الهامش ما نصه :" قد دُسّ في الكتاب في هذه المسألة خلاف المذهب". ولم أتمكن إلى الآن من العثور على المخطوط ، ولعلي أتمكن من ذلك مستقبلاً ، وسأكون شاكرًا لمن يساعدني في الوقوف عليه .
وعلى أي حال فإن رجلاً يصل إلى درجة الإمامة في المذهب ، والعمل الدؤوب في نشره إلى حدّ أنه هو الذي أرسل الإرساليات إلى المغرب - أبو الخطاب المعافري وعبدالرحمن بن رستم ومن معهما-، الذين يعتبرون النواة في نشر المذهب الإباضي بالمغرب، وقيام الدولة الرستمية ، إن رجلاً كهذا لا يمكن أن يكون بهذا الخفاء ، بحيث يعـزّ على كتب التواريخ والأدب والتراجم ذكره ، وقد ذكرتْ من هو أقل شأنًا منه بكثير ، وهذا الظافر قد نقل من "البيان والتبيين" للجاحظ لأنه يعلم أن كتب الأدب عنيت بأخبار الخوارج وأشعارهم ، ومن يطالع كتاب "الكامل" لتلميذ الجاحظ : المبرِّد ، المتوفى سنة (285 هـ) يجده عني بذكر أخبار الخوارج ورجالهم عناية فائقة ، ولو كان الربيع بن حبيب وأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة معروفين لوردا عنده في تلك الأخبار ، هذا عدا كتب الرجال والتراجم التي يترجم فيها للموافق والمخالف ، فهبك أيها الظافر تقول : إن أصحاب هذه الكتب من أهل السنة ، فلن يُعْنَوْ بالترجمة للإباضية ، وهي مقولة ينطق واقع تلك الكتب بخلافها ، فأيما أعظم جرمًا عند أهل السنة : أئمة الإباضية أو جهم بن صفوان ، وعمرو بن عبيد ، وبشر بن غياث المرِّيسي ، وأحمد بن أبي دؤاد ؟ لا شك أن جرم هؤلاء الأربعة أعظم عند أهل السنة ، بدليل أنك لا تجدهم يحتجّون بهم في شيء من الروايات ، بل لا يكادون يروون عنهم ، بينما تجدهم أخرجوا في الصحيح لطائفة من الخوارج ، ومنهم عمران بن حطان الذي امتدح عبدالرحمن بن ملجم قاتل علي. ومع ذلك تجد أهل السنة ترجموا لرؤوس الجهم والاعتزال هؤلاء ، فهذا جهم بن صفوان ترجم له الذهبي في "السير" (6/26-27) فقال :« جهم بن صفوان ، أبو مُحرز الراسبي، مولاهم، السمرقندي، الكاتب، المتكلم، أُسُّ الضلالة، ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدل ...» الخ ما قال ، وانظر أيضًا عنده ترجمة عمرو بن عبيد (6/104-106)، وترجمة بشر المريسي (10/199-202)، وترجمة أحمد بن أبي دؤاد (11/169-171).
أما كان يمكن لأصحاب كتب التراجم أن يترجموا للربيع بن حبيب وأبي عبيدة مسلم ابن أبي كريمة ولو على سبيل الذم كما ترجموا لهؤلاء وغيرهم ؟!
وهذا ينسحب أيضًا على أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني الذي اعترف الظافر بأنه لم يجد له ذكرًا في تراجم غير الإباضية .
وإذا ما واجه الإباضية هذه السؤالات الموقعة في الحرج ، وحاروا جوابًا عنها ، فروا للتعلق بالمشجب الذي يعلقون عليه أعذارهم ؛ وهو التذمُّر من ظلم الولاة الذي ألجأ أئمتهم هؤلاء إلى التواري ، وإلا خُضدت شوكة الإباضية .
وما ذكروه عن تواري أئمتهم ؛ ذكروه أيضًا عن تواري كتبهم ؛ كـ" مسند الربيع بن حبيب". وهذا مدفوع بالآتي :
1- قد يتوارى الرجل ويختفي إما بشخصه ، أو بما يحمله من فكر ، لكن لا يصل الأمر إلى درجة جهالته البتّة ، إلا أن يكون مسلوب الإمامة ، عاميّاً كعامة الناس الذين ليس لهم من صفات البروز والظهور ما يستدعي ذكرهم في كتب التراجم والسير .
وهناك عدد من الأئمة المتوارين عن الحكام الظلمة الذين طاردوهم للظفر بهم والانتقام منهم بسبب كلمة حق قالوها ، كالحسن البصري وسفيان الثوري رحمهما الله ، إلى حد أن الإمام عبدالغني بن سعيد الأزدي جمعهم في كتابه المشهور :" المتوارين "، إلا أن هذا كان سببًا في شهرتهم وحسن ذكرهم ، وعلوّ مكانتهم ؛ لا سببًا في خمول ذكرهم ، ولم يمنع من معرفة سيرتهم على التفصيل .
فإن قيل هذا مختص بعلماء أهل السنة .
قلنا : قد توارى بعض أئمة البدعة من بعض الولاة ، ولم يمنع ذلك من ذكرهم ؛ كبعض الزنادقة الذين كان الخليفة العباس المهدي رحمه الله يتتبعهم ؛ كما تجده في ترجمة صالح بن عبدالقدوس في "لسان الميزان" وغيرها .
2- وأما التواري بالفكر فكثير ، والإباضية يرون جابر بن زيد رحمه الله هو إمام المذهب ، ويرونه متواريًا بفكره ؛ ينكر أمام الناس انتساب الإباضية إليه .
وأقوى ما يدان به المرء اعترافه على نفسه .
فإذا كان الإباضية يرون جابر بن زيد رحمه الله هو إمام المذهب - بِغَض النظر عن صحة هذه الدعوى من عدمها -، واستطاع إثبات وجوده كعالم مزدوج بين أهل السنة والإباضية ، أما كان يسع أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة ما وسع شيخه من إظهار العلم المتفق عليه من الجميع ، والاختفاء بما يخص به الإباضية ؟!
وقد ذكر المزي في "تهذيب الكمال" (4/435) عشرين تلميذًا من تلاميذ جابر بن زيد، أما كان يمكن أن يُذكر - على الأقل ، ولو مجرد ذكر -أبو عبيدة على أنه ممن تتلمذ على جابر ؟
أو ما كان يمكن أن يرد على لسان أحد تلاميذ جابر ذكر مرافقة أبي عبيدة لهم في الأخذ عن جابر ؟
أو ما كان يمكن أن تكون هناك قصة حدثت في مجلس جابر - أو معه - يشترك فيها أبو عبيدة ؟
أو ما كان هناك سؤال يرد من أبي عبيدة لشيخه جابر يقول فيه الراوي : سأل أبو عبيدة جابر بن زيد؟.... الخ ما هنالك من التساؤلات التي تدور في رأس كل أحد وهو يسمع بهذه القدرة الخارقة عند أبي عبيدة على الاختفاء مع الاحتفاظ بلقب أعظم أئمة المذهب بعد جابر بن زيد ؟!
3- هناك مبالغة من الإباضية في ذكر أسباب اختفاء أبي عبيدة ، فالوقت الذي عاش فيه أبو عبيدة - وهو كما يقولون ما بين 45 هـ إلى 150 تقريبًا - كان يعجّ بالفتن من كل جانب ؛ منها الوقعة التي قتل فيها الحسين بن علي رضي الله عنهما ، ووقعة الحرّة ، وقتال ابن الزبير ، ثم فتنة ابن الأشعث، ووقعة الجماجم ، وغيرها من الفتن والملاحم التي وقعت في عصر بني أمية ، ومن أهمها خروج بني العباس عليهم ، وما جرى من الملاحم التي قادها أبو مسلم الخراساني التي أفنى فيها عرب خراسان ، وهذا أوجد بيئة خصبة لجميع الفرق لبث فكرها ونصرته ، من الرافضة ، والخوارج على اختلاف مذاهبهم وفرقهم ، ومن الناصبة ، ومن المرجئة ، ومن الجهمية ، ومن الشعوبية ، بل من الزنادقة الذين كانوا يطعنون في الإسلام ، وكلٌّ يدعو وله أتباع ، والسنة وحملتها وأهلها في مواجهة جميع هذه الجبهات، وليس لهم قوة إلا اعتصامهم بالله ، والحكام ما بين مشغول بحروبه ، وما بين غارق في شهواته ، وما بين إمام عادل لم يفسح في مدته ، وما بين ضعيف عاجز عن نصرة الحق وأهله ، فأي عذر لأبي عبيدة في الاختفاء ؟!
4- اعترف الظافر بأن أبا عبيدة استطاع أن يقيم ثلاث دول : الأولى في حضرموت واليمـن على يـد طالب الحـق ، والثـانية في عمـان على يد الجلنـدي بن مسعود ، والثالثـة في المغرب على يد أبي الخطاب المعافري . ونحن لا ننكر قيام هذه الحركات ، ولكن تفاصيلها ومبالغة الإباضية في ربطها بأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة هي التي تستوقفنا . فحركة عبدالله بن يحيى طالب الحق - على سبيل المثال - التي يزعم الظافر أنها دولة أقامها أبو عبيدة في حضرموت واليمن ، إنما هي حركة من حركات الخروج في الأطراف على الدولة الأموية في فترة ضعفها . وقد تحدث ابن جرير الطبري في "تاريخه" (8/237 و267-269 و288-296) في حوادث سنة (128 هـ - 130 هـ) عن هذه الحركة ، فإن قبلنا كل ما أورده من طريق متهم بالكذب، أو مجهول، أو إسناد منقطع، فإن الأمر لا يعدو أنها حركة قام بها عبدالله بن يحيى طالب الحق ، وتابعه الخارجي أبو حمزة ، وتحركوا في تلك الأطراف التي يضعف فيها سلطان بني أمية في فترة ضعفهم ؛ أعني اليمن وحضرموت ، لكن بلغ بهم العجب بقوتهم إلى المسير إلى الحرمين مكة والمدينة مستغلين موسم الحج ، فاستولوا عليها ، فما كان من الحاكم الأموي مروان بن محمد إلا أن أرسل لهم قائده عبدالملك بن محمد بن عطية السعدي في قوة قوامها أربعة آلاف رجل ، فانتزعوا منهم الحرمين ، وقتلوا القائد أبا حمزة الخارجي ، وساروا حتى وصلوا اليمن فالتقوا مع عبدالله بن يحيى طالب الحق فقتلوه ، فأي دولة تلك التي يفنيها أربعة الآف ؟!
ثم إذا كان أبو عبيدة أقام هذه الدول الثلاث ، أما كان ذلك مدعاة لشهرته وظهوره ، ولماذا يبقى في البصرة التي يعيش فيها على تخوُّف ، ولا يذهب لإحدى هذه الدول حيث يأمن فيها ويظهر للناس؟!
وأما أبو الخطاب المعافري ودولته التي أقامها في المغرب ، فهي نواة الدولة الرستمية التي سيأتي الحديث عنها في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
الردُّ الخامس للشيخ سعد الحميّد على ردود الظافر
في يوم 30/5/2000م قام المدعو "الصارم المسلول" بنشر الردّ الخامس من سلسلة ردود سعد الحميّد على ردود الظافر. وقد نشر الموضوع في المنتدى الإسلامي لمنتدى أنا المسلم. يمكن الرجوع إلى الوصلة التالية لقراءة الموضوع الأصلي:http://vip1.org/ubb/Forum1/HTML/003309.html
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعـد :
فقد ذكرت في مقالي السابق عددًا من الإيرادات التي تدل على أن أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة شخصية مجهولة ، لا كما يصوره كتاب الإباضية وعلماؤهم ؛ من وصفه بأوصاف تدل على مكانته، وشهرته ، وقيادته للحركة الإباضية بعد جابر بن زيد .
ومع ما سبق أضيف هنا ثلاثة أمور- وقد يكون هناك أكثر مما ذكرت-.
الأمـر الأول : يذكر الإباضية في كتبهم مبالغة أبي عبيدة في السرية ، إلا أنه « رغم هذا التنظيم وهذه السرية ما كان ليسلم أبو عبيدة من أن يقع في فخ المكائد التي تحبك له. فقد وقع أبو عبيدة في قبضة الدولة الأموية التي وكلت أمر البصرة لذلك الطاغية الحجاج ابن يوسف الثقفي الذي نفى جابر بن زيد إلى عمان ، ثم سجن أبا عبيدة وضمامًا وكثيرًا ممن معهما من أهل الاستقامة » اهـ. من "حملة العلم إلى المغرب" (ص9) لسيف بن أحمد البوسعيدي الإباضي ، وأحال على كتاب " أبو حمزة الشاري " (ص76).
ونقل البوسعيدي (ص9-10) أيضًا عن الدرجيني أنه قال في "الطبقات" (2/247): « بلغنا عن ضمام حين سجنه الحجاج هو وأبو عبيدة قال : أدخلنا في سجن ، قال : فلم يكن يوصل إلينا ولا يدخل علينا حديدة ولا جلم ، قال: وإنما كنا نقص شواربنا بأسناننا، وإن كان الرجل منا لينفض لحيته فيتساقط منها القمل ، قال : وإنما كان يطعمنا خبز الشعير والملح الجرش ، قال : ويعمد إلى مراكن عظام فيسكب فيها الماء ، ثم يؤتى بملح فيلقى في تلك المراكن ، ثم يضرب حتى يخرج رغوته ، ثم يقال : يا أهل السجن ! خذوا ماءكم ، قال : فمن أخذ من أوله كان أمثل قليلاً ، ومن أخذ من آخره فهو العذاب ، قال : فكان ضمام ربما ضاق فيقول له أبو عبيدة : ويلك ! ما هناك على من تضيق وعلى من تدل » اهـ. وهذه الحادثة ذكرها أيضًا الشماخي في " السير " (1/81).
فحادثة اعتقال أبي عبيدة هذه تدل على أن شهرته في قيادة التنظيم كسرت طوق السرية التي أحاط بها نفسه وعمله ، وأصبح تنظيمه مكشوفًا للحجاج بن يوسف ، مما حدى به إلى اعتقاله ، فلا معنى إذًا لدعوى أن مرحلة الكتمان وسرية العمل كانت سببًا في خمول ذكر أبي عبيدة عند غير الإباضية - وبخاصة في كتب التراجم والتواريخ - ما دام التنظيم قد كشف ، وقيادته قد عُرفت ، وهذا مما يؤكد ما ذكرته سابقًا من زيف تلك المعلومات التي يدلي بها الإباضية عن شخصية أبي عبيدة .
ثم إن نفس الحدث - أعني حدث اعتقال أبي عبيدة ومن معه - مدعاة لذكره في الحوادث التي يُعنى بكتابتها المؤرخون الذين عنوا بذكر مظالم الحجاج وتعذيبه لخصومه ، وقد ذكروا ما هو أقل من هذا!
الأمر الثاني : نقل البوسعيدي أيضًا (ص 12) عن الدرجيني أنه ذكر في "الطبقات" (2/246) أن واصل بن عطاء - إمام المعتزلة - كان يتمنى لقاء أبي عبيدة ويقول : لوقطعته قطعت الإباضية ، فبينما هو في المسجد الحرام ومعه أصحابه ، إذ أقبل أبو عبيدة ومعه أصحابه ، فقيل لواصل : هذا أبو عبيدة في الطواف ، فقام إليه واصل فلقيه ، وقال : أنت أبو عبيدة ؟ قال : نعم ، قال : أنت الذي بلغني أنك تقول : إن الله يعذب على القدر ؟ فقال أبو عبيدة : ما هكذا قلت ، لكن قلت : إن الله يعذب على المقدور ، فقال أبو عبيدة : وأنت واصل بن عطاء ؟ قال : نعم ، قال : أنت الذي بلغني عنك أنك تقول: إن الله يُعصى بالاستكراه ؟ فنكس واصل رأسه فلم يجب بشيء ، ومضى أبو عبيدة، وأقبل أصحاب واصل على واصل يلومونه ، يقولون: كنت تتمنى لقاء أبي عبيدة فسألته فخرج، وسألك فلم تجب ، فقال واصل : ويحكم ! بنيت بناء منذ أربعين سنة ، فهدمه وأنا قائم ، فلم أقعد ولم أبرح مكاني » اهـ.
ومثل هذا الحِجاج للقدرية الحاجة ماسة لذكره في كتب العقائد ، بل وكتب المعتزلة أنفسهم ، فلماذا لم يذكر ؟ والحادثة تؤكد أن شهرة أبي عبيدة بلغت إلى حد أن يتمنى هذا المتكلم رأس المعتزلة لقاءه ، فهل بلغ الشحّ بالكتَّاب أن يبخلوا على أبي عبيدة بقطرة من الحبر يذكرون فيها شيئًا من علمه وصفاته ؟!
الأمـر الثالث : ذكرت في المقال الأول ذلك النقل الذي زعم القنوبي أنه أخذه عن "الكامل" لابن الأثير ، والحقيقة أنه أخذه عن "السير" للشماخي الإباضي (1/85)، والنقل يصور أن أبا عبيدة كان معروفًا عند الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور معرفة دفعته للقول عندما بلغه خبر موته :" وإنه قد مات ؟! " فرجّع ، وقال :" ذهب الإباضية".
فهل يمكن أن نتصور رجلاً يكون بهذه الشهرة ، وهذه المكانة ، ومع ذلك يهمل ذكره المؤرخون والمترجمون ؟
وبعد الفراغ من الكلام عن شخصية أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، نأتي للكلام عن الدولة الرستمية.
فقد أشار الظافر في رده إلى أن أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة استطاع أن يقيم ثلاث دول ، الأولى في حضرموت واليمن على يـد طالب الحـق ، والثـانية في عمـان على يد الجلنـدي بن مسعود ، والثالثـة في المغرب على يد أبي الخطاب المعافري .
وكنت ذكرت في مقالي - الذي أثار هذا النقاش - أن "مسند الربيع" واتته فرصة للظهور أثناء قيام الدولة الرستمية في المغرب ، وكان رد الظافر على هذا الحجة قوله : «وهل عرف سعد الحميد عشر معشار علماء الإباضية ؟ .... ،وهل عرف غير الدولة الرستمية التي ربما لا يعرف عنها إلا اسمها ؟ هل يعرف سعد الحميد مؤسسها عبدالرحمن ابن رستم ، وابنه عبدالوهاب ، وابنه أفلح بن عبدالوهاب وغيرهم ؟ وهل ذكر هؤلاء في كتب غير الإباضية ليعترف بهم سعد الحميد ؟".
ودعك - أخي القارئ - من هذا التهويل والتهويش ، فكما قلت سابقًا : العمر أشرف من أن يضيع في مثل هذه الخصومات ، ولولا ما تضمنه كلام الظافر من خلط السباب والسخرية ببعض المسائل العلمية التي لابد من بيان وجه الحق فيها ، لأعرضت عن مناقشته ، وسأجعل كلامي هنا عن الدولة الرستمية محصورًا في مسألتين :
1- عرض مختصر عن الدولة الرستمية ونشأتها ، وأئمتها ، وهل ذكروا في غير كتب الإباضية أولا ؟
2- ثمرة ذكري للدولة الرستمية .
أما نشأة الدولة الرستمية : فأمامنا فيه رأيان :
أ - رأي الإباضية ، وهو الذي يقصده الظافر بدعواه أن أبا عبيدة مسلم بن أبي كريمة استطاع أن يقيم ثلاث دول: التي في عمان، والتي في اليمن، والثالثـة التي في المغرب.
وخلاصة ما ذكروه أن رجلاً يدعى سلمة بن سعد الحضرمي اتفق مع أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ليرسل له في البصرة مجموعة من إباضية المغرب ليعدَّهم دعاة هناك ، فوصل خمسة من هؤلاء الدعاة ، وهم : عاصم السدراتي ، وإسماعيل بن درار الغدامسي ، وأبو داود القبلي النفزاوي ، وعبدالرحمن بن رستم الفارسي الأصل ، وأبو الخطاب عبدالأعلى بن السمح المعافري الحميري ، من أهل اليمن .
وكان وصولهم إلى أبي عبيدة سنة (135 هـ)، ومكثوا عنده خمس سنوات ، وتخرَّجوا من مدرسته سنة (140 هـ)، وتوجهوا للمغرب ، وكان أبو عبيدة أشار عليهم بتولية أبي الخطاب المعافري لصفات رآها فيه ، فعقدت له الإمامة في نفس العام سنة (140 هـ)، وبايعه الإباضيون ، فبدأ حروبه ، حيث استولى على طرابلس ، ثم توجه إلى القيروان فاستولى عليها ، وكانت هناك عدة وقائع بينه وبين العباسيين ، حتى إنه قتل من جنود بني العباس في إحدى الوقائع ستة عشر ألفًا .
وكانت نهايته في سنة (144هـ) حين التقى مع قائد الحملة العباسية محمد بن الأشعث في " تورغا"- على مسيرة ثمانية أيام من طرابلس -، فأبادهم جميعًا هذا القائد العباسي ، وكانت عدتهم أربعة عشر ألفًا ، واحتزّ محمد بن الأشعث رأس أبي الخطاب ، وبعث به إلى الخليفة العباسي المنصور في بغداد .
وكان أبو الخطاب قد ولّى عامله عبدالرحمن بن رستم على مدينة القيروان ، فلما حصل له ما حصل؛ فـرّ عبدالرحمن بن رستم من القيروان ، وأخلاها لابن الأشعث ، وتوجّه إلى المغرب حيث اعتصم بجبل منيع هناك ، وحاصره فيه ابن الأشعث مدة فلم يتمكن منه ، فارتحل عنه . ثم إن ابن رستم استطاع أن يجمع فلول الإباضية هناك ، ويقيم دولة في مدينة " تيهرت "- شمال الجزائر الآن -، عرفت هذه الدولة بـ" الدولة الرستمية " نسبة إلى عبدالرحمن بن رستم هذا ، وهو ابن رستم بن بهرام بن سام بن كسرى أنو شروان ملك الفرس ، وذلك في سنة (160 هـ).
وكانت وفاة عبدالرحمن بن رستم هذا سنة (171 هـ).
ثم تولى بعده ابنه عبدالوهاب ، وتوفي سنة (190 هـ).
ثم تولى بعده ابنه أفلح بن عبدالوهاب ، وتوفي سنة (240 هـ).
ثم تولى بعده ابنه أبو بكر بن أفلح ، فلم تدم خلافته إلا نحو عام ، قيل : إنه مات بعدها ، وقيل سلّم الأمر لأخيه أبي اليقظان محمد بن أفلح سنة (241 هـ)، واستمرت خلافته إلى وفاته سنة (281هـ).
ثم تولى بعده ابنه أبو حاتم يوسف بن أبي اليقظان الذي مات مقتولاً من بعض قرابته سنة (294 هـ).
ثم تولى بعده أخوه اليقظان بن أبي اليقظان الذي نصّبه قرابته الذين قتلوا أخاه ، وهو آخر من تولى من بني رستم ، حيث انتهت دولتهم على يد أبي عبدالله الشيعي داعية العبيديين ، وذلك في سنة (296 هـ).
وهذا المذكور في جملته – عدى ذكر أبي عبيدة ودوره - موجود في كتب غير الإباضية التي جهلها الظافر ، فرماني بالعجز عن تحصيل ذكر الرستميين فيها . فمن تلك الكتب :
1- "الكامل في التاريخ " لمحمد بن محمد الشيـباني المعروف بابن الأثير ،الطبعة الرابعة سنة (1403 هـ)- نشر دار الكتاب العربي ببيروت - ذكرهم في (4/281)، و(5/32و157)، و(6/133).
2- "معجم البلدان " لياقوت الحموي .
ذكر (2/8-9) مدينة تيـهرت ، وذكر ملك بني رستم لها ، وبعض ملوكهم وأخبارهم .
3- "البيان الْمُغرب في أخبار الأندلس والمغرب " لابن عذاري المراكشي ، حيث عنون (1/196) بقوله: « ذكر مدينة تيهرت »، ثم ذكر تأسيس عبدالرحمن بن رستم لها، ثم عنون مرة أخرى (1/197) بقوله : « ذكر من ملك مدينة تيهرت من حين ابتدائها من بني رستم وغيرهم »، ثم ذكر تسلسل ملوك بني رستم في توليها ، إلا أنه سمى عبدالوهاب: عبدالوارث .
4- "العبر وديوان المبتدأ والخبر " لعبدالرحمن بن خلدون المغربي ، وهو المشهور بـ"تاريخ ابن خلدون " طبع دار الكتاب اللبناني سنة 1981 م .
ذكر ابن خلدون بعض ملوك بني رستم وأخبارهم في مواضع عدة من كتابه هذا ، منها 11/225 و226 و228 و232 و246 و247 و268 و287).
5- "البـدء والتاريخ" للمطهر بن طاهر المقدسي، ذكر ولاية ابن رستم في (4/73).
6- "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" لأحمد بن محمد المقري التلمساني ، نشر دار صادر ببيروت سنة 1968 م ، تحقيق د. إحسان عباس .
ذكرهم في (3/29).
7- "الحلة السيراء " لأبي عبدالله محمد بن عبدالله بن أبي بكر القضاعي ، نشر دار المعارف بالقاهرة، الطبعة الثانية سنة 1985 م، بتحقيق د. حسين مؤنس .
ذكرهم في (1/192).
8- "المغرب في حلى المغرب " لأبي سعيد المغربي . الطبعة الثالثة بالقاهرة سنة 1955 م ، نشر دار المعارف ، بتحقيق د. شوقي ضيف .
ذكرهم في (1/48 و 50).
9- "الاستقصاء لأخبار المغرب الأقصى " لأبي العباس أحمد بن خالد الناصري ، طبع دار الكتاب - الدار البيضاء ، سنة 1954 م.
ذكر ملوكهم وأخبارهم في عدة مواضع ، منها (1/124 و125 و128 و130 و134).
10- تاريخ الدولة العلية العثمانية " للأستاذ محمد فريد بك ، ذكر (ص 54) أن المهدي الفاطمي لما فتح مدينة تيـهرت انتهى ملك بني رستم بعد أن دام مائة وستين سنة .
فتبين بهذه النقول أن الدولة الرستمية وملوكها مذكورون في كنب أهل السنة التي لم يقف الظافر على ذكرهم فيها .
وللحديث بقيـة
الردُّ السادس للشيخ سعد الحميّد على ردود الظافر
في يوم 8/6/2000م قام المدعو "الصارم المسلول" بنشر الردّ السادس من سلسلة ردود سعد الحميّد على ردود الظافر. وقد نشر الموضوع في المنتدى الإسلامي لمنتدى أنا المسلم. يمكن الرجوع إلى الوصلة التالية لقراءة الموضوع الأصلي:http://vip1.org/ubb/Forum1/HTML/003506.html
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعـد :
فقد ذكرت في مقالي السابق رأي الإباضية في نشأة الدولة الرستمية بالمغرب.
ونأتي في هذا المقال على ذكر الرأي الثاني:
ب- وهو رأي باقي المؤرخين من غير الإباضية الذين ذكروا هذه الدولة ، ولم يذكروا لأبي عبيدة سبباً فيها ، شأنها شأن باقي الدول التي قامت في الشمال الإفريقي (المغرب) آنذاك.
وهذا يضطرنا إلى معرفة تاريخ دخول رأي الخوارج في الشمال الإفريقي وأسبابه.
فكتّاب الإباضية يبالغون في تصوير دور أبي عبيدة ، حتى إنه ليخيل للقارئ أن الخارجية ما وصلت للمغرب إلا عن طريق أبي عبيدة ودعاته الخمسة المتقدم ذكرهم ـ أبو الخطاب وابن رستم ومن معهما ـ، وليس الخارجية فقط ، بل الإسلام أجمع.
يقول البوسعيدي في كتابه "حملة العلم إلى المغرب" (ص15-16) وهو يذكر مجالس إعداد الدعاة السرية التي كان يعقدها أبو عبيدة بالبصرة: «حيث كان الدعاة الذين تم اختيارهم على أيدي رجال مهرة لهذا الغرض من مختلف الأمصار يتلقون العلم وأصول الدعوة وتعاليمها وتخطيطاتها عن الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي ، وعن شيوخ الإباضية البارزين الموثوقين.
في هذه المجالس التي أعدت بإحكام لأداء الغرض المنوط بها ، وهو إعداد جيل يستطيع أن يضطلع بالمهمة الشاقة التي سوف يتحملها إذا ما غدا خارجاً من سراديب البصرة التي كانت تعتبر بحق أهم مركز إشعاع عرفه الفكر الإباضي.
تلك السراديب التي خرجت أولئك الرجال الأبطال الأفذاذ الذين برهنوا للعالم أنهم أهل للمسئولية التي كانت ترجوها منهم الحركة الإباضية الأولى.
فهم مشاعل خير ، وآمال أمة ، وحملة للعلم إلى بلادهم وأمصارهم التي أتوا منها ، فقد أسلفنا أنهم أتوا من أماكن مختلفة ، فمنهم من أتى من عمان ؛ كالربيع بن حبيب الفراهيدي ، وبشير بن المنذر النزواني ، ومحمد بن المعلا الكندي ، وراشد بن عمر الحديدي ، وأبي حمزة المختار بن عوف ، وبلج بن عقبة الفراهيدي ، والجلندى بن مسعود ، وغيرهم.
ومنهم من أتى من اليمن ؛ كسلمة بن سعد الحضرمي ، وعبد الله بن يحي الكندي طالب الحق ، وأبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري ، وأبي أيوب وائل بن أيوب الحضرمي.
ومنهم من أتى من الحجاز ؛ كمحمد بن سلمة المدني ، وأبي سفيان محبوب بن الرحيل القرشي المكي، وأبي الحر علي بن الحصين.
ومنهم من أتى من خراسان ؛ كهلال بن عطية الخراساني ، وأبي عيسى الخراساني، وأبي عبد الله هاشم بن عبد الله الخراساني.
ومنهم من أتى من مصر ؛ كمحمد بن عباد المصري ، وعيسى بن علقمة المصري.
وقد تعلم ناس من نفس العراق أيضاً ؛ كأبي غسان مخلد بن العمرد الغساني العراقي ، وعبد الملك الطويل ، وأبي سعيد عبد الله بن عبد العزيز.
ومنهم من أتى من الشمال الإفريقي (بلاد المغرب) ؛ مثل: عبد الرحمن بن رستم الفارسي ، وعاصم السدراتي ، وإسماعيل بن درار الغدامسي ، وأبو داؤد القبلي.
الذين أطلق عليهم لقب (حملة العلم إلى المغرب) بعد أن انضم إليهم أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري اليمني ، فكوّن هؤلاء الخمسة هذه الحملة المباركة التي آتت ثمارها الطيبة في بلاد المغرب كما سوف نرى من خلال الأحداث الآتية سيرة وآثار هؤلاء الدعاة الذين كان لهم الفضل الأكبر في قيام الصبغة الإباضية في بلاد المغرب» ا.هـ.
ويقول أيضا (ص17-18): « أما سكّان المغرب فكان اسمهم الأمازيغ نسبة إلى جدهم مازيغ بن كنعان بن حام بن نوح ، ثم سمّاهم العرب بربراً بتفخيم الراءين ، للغتهم التي لا يفهمونها.
وكان البربر ينقسمون إلى طائفتين متباينتين: البربر البرانس ـ أو الحضر ـ ، وكانوا ينزلون السهل الساحلي الذي يقع بين الجبال والبحر ثم ينتشرون على طول الجبال الممتدة من الشرق إلى الغرب في السفوح المزروعة والنواحي الخصيبة ، أما البربر الرحل ـ أو البتر ـ ، فكانوا يعمرون الصحاري والواحات التي تلي ذلك جنوباً وشرقاً.
كانت بلاد المغرب قبل الإسلام وبعد فتحها على يد الفاتحين الأوائل من المسلمين المجاهدين وطناً واحداً ، وكانت القبيلة الواحدة تتفرق في كافة أجزائه.
وإذا رجعنا إلى دخول الإسلام بلاد المغرب ، فإننا نجد أن الفضل الأول كما أسلفنا إلى الفاتحين الأوائل من المسلمين ، ولكن الفضل الأكبر في نشر الإسلام وازدهاره في بلاد المغرب في الثلاثة القرون الأولى للهجرة يرجع في المقام الأول إلى دعاة الإباضية الذين انطلقوا من المشرق ، فربطوا بينهم وبين بلاد المغرب على بعد المشقة بين المشرق والمغرب.
وفي القرن الثاني والثالث الهجري ظهر أثر جهد هؤلاء الدعاة ، فقامت الإمامة الإباضية ، وتمخض شرق المغرب الأدنى والمغرب الأوسط عن الدولة الإباضية الكبرى التي التزمت في سياستها الدين القويم ، وأحيت سيرة الخلفاء الراشدين ، فتقدمت بلاد المغرب في كل نواحي الحضارة الإسلامية ، وصار المغرب الإسلامي العربي حصناً منيعاً للدّين ، ورمزاً للأخوة الإسلامية والعربية» ا.هـ.
فالخارجية إذاً سرت في قبائل البربر، والذي سمّاهم بهذا الاسم هو أفريقش بن قيس ابن صيفي أحد ملوك التبابعة لما غزا المغرب ، ورأى هذا الجيل وكثرة كلامهم ، وسمع رطانتهم ، ووعى اختلافها وتنوعها ، تعجب من ذلك وقال: « ما أكثر بربرتكم !! » فسمّوا البربر ، والبربرة بلسان العرب: اختلاف الأصوات غير المفهومة. انظر "تاريخ ابن خلدون" (11/176 و184-185).
ومن صفات هذا الجنس من البشر: العنف والشدة والأنفة ، وكونهم ليسوا أهل دين سابق يجمعهم بل كانوا على حال عظيم من الجهل قبل دخول الإسلام ، واستمر ذلك في بداية الفتح الإسلامي.
ينقل ابن خلدون في "تاريخه" (11/205 و220) عن أبي محمد ابن أبي زيد أن البربر ارتدوا بإفريقية المغرب من طرابلس إلى طنجة اثنتي عشرة مرة ، ولم يستقر إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير ، وقيل بعدها.
وقال ابن خلدون (11/212): « هؤلاء البربر جيل ذو شعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بإفريقية والمغرب ، وفي أخبار ردتهم وحروبهم فيها نقل ابن أبي الرقيق: أن موسى بن نصير لما فتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس. فكتب إليه الوليد بن عبد الملك: ويحك! إني أظنها من بعض كذباتك ، فإن كنت صادقاً فهذا محشر الأمة ، ولم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل وإلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي وبلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها ولا ما قبلها. وكان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق والمغرب إلاّ في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم. فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مراراً على ما ذكر مؤرخوهم ، فاستكانوا لغلبهم ودانوا بدينهم » ا.هـ.
وقال أيضاً (11/220-221): « وذكر أبو محمد ابن أبي زيد أن البربر ارتدوا اثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة ، ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق وموسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوّخ المغرب ، وأجاز معه كثير من رجالات البربر وأمرائهم برسم الجهاد ، فاستقروا هنالك من لدن الفتح ، فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب وأذعن البربر لحكمه ، ورسخت فيهم كلمة الإسلام وتناسوا الردة. ثم نبضت فيهم عروق الخارجية ، فدانوا بها ولُقِّنوها من العرب الناقليها من منبعها بالعراق. وتعددت طوائفهم وتشعبت طرقها ، من الإباضية والصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج. وفشت هذه البدعة وأعقدها رؤوس النفاق من العرب وجراثيم الفتنة من البربر ؛ ذريعة إلى الانتزاء على الأمر، فاختلوا في كل جهة ، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر ، تتلون عليهم مذاهب كفرها ، ويلبسون الحق بالباطل فيها ، إلى أن رسخت فيهم كلمات منها ، ووشجت بينهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب ، فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة اثنتين ومائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات. ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة اثنتين وعشرين ومائة في ولاية عبد الله بن الحبحاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس ، وأثخن في البربر وسبى وغنم ، وانتهى إلى مسوفة فقتل وسبى وداخل البربر منه رعب ، وبلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين، فانتقضوا عليه ، وثار ميسرة المطغري بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله ، وبايع لعبد الأعلى بن جريج الإفريقي روميّ الأصل ومولى العرب ، كان مقدّم الصُفْرِيَّة من الخوارج في انتحال مذهبهم ، فقام بأمرهم مدة ، وبايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعياً إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية ، ثم ساءت سيرته ، فنقم عليه البربر ما جاء به ، فقتلوه وقدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي» ا.هـ.
فدخول رأي الخوارج ـ من الإباضية والصفرية ـ إلى المغرب إذاً كان في وقت مبكر مع بداية الفتح الإسلامي من بعض العرب القادمين مع الفتح ، ولم ينتظر دعاة أبي عبيدة الخمسة ، وهذا عكرمة البربري معروف بنزعته الخارجية ، وهو مولى وتلميذ ابن عباس المتوفى سنة (68هـ).
وأمر آخر أيضاً ، وهو أن رجوع هؤلاء الخمسة إلى المغرب كان في سنة (140هـ)، وقيام دولة أبي الخطّاب المعافري كان في نفس السنة ، فهل استطاع أبو الخطّاب وأصحابه نشر الدعوة وإقامة الدولة بهذه السرعة ؟!
وقد صادف رأي الخوارج هذا محل قبول في قبائل البربر لأسباب عدة، من أهمها:
1- الجهل: فالبربر كانوا أمة عالة على غيرهم من الأمم في الديانة ، فمنهم المجوس، ومنهم النصارى، ومنهم من لا دين له كما تدل عليهم مقولة أحد ملوك المغرب ـ واسمه يليان ـ كما في البيان المغرب (1/26) ، وذلك أنه لمّا سالم عقبة بن نافع رحمه الله ونزل على حكمه ، قال: « قد تركت الروم وراء ظهرك ، وما أمامك إلا البربر ، وهم مثل البهائم ، لم يدخلوا في دين نصرانية ولا غيرها ، وهم يأكلون الجيف ، ويأكلون مواشيهم ويشربون دماءها من أعناقها ، فقد كفروا بالله العظيم فلا يعرفونه ، ومعظمهم المصامدة» ا.هـ.
فليس لهم إذاً ديانة مستقلة يحملونها ويدافعون عنها ، ولما دخلت طلائع الفتح الإسلامي وقفوا في وجه الإسلام أَنَفَةً أن يحكموا من غيرهم ، فإن كانت الدائرة عليهم أظهروا الإذعان لحكم الإسلام ، ومتى ما وجدوا فرصة للانتقاض انتقضوا ورجعوا إلى ما كانوا عليه ، وهذا الذي قصده أبو محمد ابن أبي زيد بقوله: إنهم ارتدوا اثنتي عشرة مرة. وكان لثوراتهم المتكررة أثر كبير في إضعاف شوكة المسلمين الفاتحين ، وإلا لاكتسحوا أوروبا بأكملها ، ولم يقفوا عند الأندلس فقط ، ومن يقرأ في كتب التواريخ ، ويطّلع على أخبارهم في مقاومة الفتح يجد عجباً.
وقد أدرك بعض المصلحين من الفاتحين مكمن الخطر في هذا الجنس من البشر ، ورأى أن أفضل الحلول: تعليمهم ، وتفقيههم ، ليعلموا أن القصد ليس الاستيلاء على الأرض وسلب الأموال ، وإنما نشر هذا الدّين ، فإذا خضعوا لحكم الإسلام عصموا دماءهم وأموالهم ، وأصبحوا جزءاً من هذا الكيان العظيم. فهذا موسى بن نصير رحمه الله يحكي عنه ابن عذاري المراكشي في "البيان المغرب" (1/42) أن البربر لما رأوا ما أوقع بهم رحمه الله من القتل والسبي استأمنوا وأطاعوا ، فولى عليهم والياً ، وأمر العرب أن يُعلِّموا البرابر القرآن ، وأن يفقهوهم في الدين ويعلموهم شرائع الإسلام ، وترك فيهم سبعة عشر رجلاً من العرب يعلِّمونهم ، فحصل من جرّاء ذلك خير كثير ، حيث تم إسلام أهل المغرب الأقصى ، وبنيت المساجد ، إلا أن هذا إنما حصل لبعضهم ، وبعضهم الآخر بقوا على جهلهم، وإليك هذا الخبر الذي ذكره ابن عذاري في "البيان المغرب" (1/56-57) في حوادث سنة (124هـ) حيث قال: « ذِكْرُ برغواطة وارتدادهم عن الإسلام: قال ابن القطان وغيره: كان طريف من ولد شمعون بن اسحاق ، وإن الصفرية رجعت إلى مدينة القيروان لنهبها واستباحتها في ثلاثمائة ألف من البربر مع أمير منهم ، وكانوا قد اقتسموا بلاد إفريقية وحريمها وأموالها ، فهزمهم الله تعالى بأهل القيروان ، وهم في اثني عشر ألف مقاتل ، نصرهم الله تعالى عليهم ، وخبرهم طويل يمنع من إيراده هنا خيفة التطويل. وكان طريف هذا من جملة قواد هذا العسكر ، وإليه تنسب جزيرة طريف. فلما هزمهم الله بأهل القيروان ، وتفرقوا ، وقُتِل من قُتِل منهم ، وتشتت جمعهم ، سار طريف إلى تامسنا ـ وكانت بلاد بعض قبائل البربر ـ ، فنظر إلى شدة جهلهم ؛ فقام فيهم ، ودعا إلى نفسه ، فبايعوه وقدَّموه على أنفسهم ، فشرع لهم ما شرع ، ومات بعد مدة، وخلَّف من الولد أربعة ، فقدم البربر ابنه صالحاً ، فأقام فيهم على الشرع الذي شرعه أبوه طريف، وكان قد حضر مع أبيه حرب ميسرة الحقير ومغرور بن طالوت الصفريين اللذان كانا رأس الصفرية ، فادّعى أنه أُنزل عليه قرآنهم الذي كانوا يقرءونه ؛ وقال لهم إنه صالح المؤمنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز ، وعهد صالح إلى ابنه إلياس بديانته ، وعلّمه شرائعه ، وفقهه في دينه ، وأمره ألاّ يظهر الديانة حتى يظهر أمره ، وينتشر خبره ، فيقتل حينئذ من خالفه ، وأمره بموالاة أمير المؤمنين بالأندلس. وخرج صالح إلى المشرق ، ووعده أنه يرجع في دولة السابع من ملوكهم ، وزعم أنه المهدي الذي يكون في آخر الزمان لقتال الدجال ، وأن عيسى – عليه السلام - يكون من رجاله ، وأنه يصلي خلفه. وذكر في ذلك كلاماً نسبه إلى موسى - عليه السلام.
فولي بعد خروجه إلى المشرق ابنه إلياس خمسين سنة. فكتم شريعته إلى سنة 173هـ » ا.هـ.
2- ظلم الولاة: مما لا شك فيه أن حكام بني أمية يختلفون ، فمنهم صحابة كمعاوية – رضي الله عنه - ومنهم إمام عادل كعمر بن عبد العزيز رحمه الله ، ومنهم طالب ملك ، مقبل على الشهوات ، وهؤلاء يختلفون ، فبعضهم عنده توسع في المباحات ، بل إسراف فيها ، إلا أن ذلك لم يوقعه في الحرام ؛ كشرب الخمر والزنا ونحوهما ، ومع ذلك فهو غيور على الإسلام راغب في الجهاد ؛ كسليمان بن عبد الملك ، ومنهم من وقع في الحرام نسأل الله السلامة.
وهؤلاء الولاة أسندوا أمر الفتوحات إلى ولاة آخرين ، فمنهم أناس أهل تقى وصلاح كعقبة بن نافع وموسى بن نصير ، ومنهم غير ذلك ، وهؤلاء وقع منهم ظلم لبعض البربر ؛ كعمر بن عبد الله المرادي عامل طنجة وما والاها ، فيحكي ابن عذاري في "البيان المغرب" (51-52) عنه أنه: "أنه أساء السيرة وتعدى في الصدقات والعشر ، وأراد تخميس البربر ، وزعم أنهم فيء المسلمين ، وذلك ما لم يرتكبه عامل قبله ، وإنما كان الولاة يُخَمِّسون من لم يُجِبْ للإسلام. فكان فعله الذميم هذا سبباً لنقض البلاد ، ووقوع الفتن العظيمة المؤدية إلى كثير القتل في العباد ، نعوذ بالله من الظلم الذي هو وبال على أهله! » ا.هـ.
ويقول ابن خلدون (11/239-240): « ولما ولي عبيد الله بن الحبحاب على إفريقية من قبل هشام بن عبد الملك ، وأمره أن يمضي إليها من مصر ، فقدمها سنة أربع عشرة ، واستعمل عمر بن عبد الله المرادي على طنجة والمغرب الأقصى ، وابنه إسماعيل على السوس وما وراءه. واتصل أمر ولايتهم ، وساءت سيرتهم في البربر ، ونقموا عليهم أحوالهم وما كانوا يطالبونهم به من الوصائف البربريات ، والأفرية العسلية الألوان ، وأنواع طرف المغرب فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك وانتحاله ، حتى كانت الصرمة من الغنم تستهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها ، ولا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد وما قرب منه. فكثر عيثهم بذلك في أموال البربر وجورهم عليهم ، وامتعض لذلك ميسرة الحفيد زعيم مطغرة ، وحمل البرابرة على الفتك بعمر بن عبد الله عامل طنجة ، فقتلوه سنة خمس وعشرين ، وولى ميسرة مكانه عبد الأعلى بن خدع الإفريقي الرومي الأصل ؛ كان من موالي العرب وأهل خارجيتهم ، وكان يرى رأي الصفرية ، فولاه ميسرة على طنجة ، وتقدم إلى السوس فقتله عامله إسماعيل بن عبد الله ، واضطرم المغرب ناراً ، وانتقض أمره على خلفاء المشرق ، فلم يراجع طاعتهم بعد » ا.هـ.
3- حقد البربر على الفاتحين: فيرون أنهم جنس غريب عليهم ـ عرب ـ يريد الاستيلاء على بلادهم وثرواتهم ؛ كما في مقولة ملكتهم الكاهنة: « إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة ، ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي ، فلا نرى لكم إلا خراب بلاد إفريقية كلها حتى ييئس منها العرب ، فلا يكون لهم رجوع إليها إلى آخر الدهر ». انظر البيان المغرب (1/36).
4- ملاقاة الفكر الخارجي لطبائع البربر: فالقسوة ، والثورة لأدنى سبب من سمات الفكر الخارجي ، وهذه تتناسب مع طباع البربر ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك باقي الأسباب؟!
5- شهوة الحكم: وهي التي يعبر عنها ابن خلدون بقوله ـ فيما سبق نقله ـ: « ذريعة إلى الانتزاء على الأمر ». فإذا كان هناك شهوة جامحة ، ورغبة في الملك ، ووجد الطالب لذلك ذريعة يتذرع بها للوصول لهدفه ؛ وانضافت هذه الأسباب بعضها إلى بعض، أوجدت أرضا خصبة للفكر الخارجي ولا شك.
وقد أساء رأي الخوارج للبربر مع باقي الطباع حتى أصبح كثير من الناس يستنكف عن الانتساب إليهم كما تجد شيئاً من ذلك عند ابن خلدون في "تاريخه" (11/206) ، مع أن فيهم من الفضائل ما لا ينكر، وبعد اضمحلال رأي الخوارج فيهم نبغ فيهم علماء وصالحون كما تجد تفصيل ذلك في "تاريخ ابن خلدون" أيضاً (11/205-211) ؛ حيث عقد فصلا عنون له بقوله: « الفصل الثالث: في ذكر ما كان لهذا الجيل قديماً وحديثاً من الفضائل الانسانية ، والخصائص الشريفة الراقية بهم إلى مراقي العز ومعارج السلطان والملك".
ونعوذ بالله من دعوى الجاهلية التي قال عنها المصطفى- صلى الله عليه وسلم – "دعوها فإنها منتنة »، وأرجو ألا يساء فهم الكلام السابق ، فكلنا يعلم أن الإسلام جاء والعرب في جاهلية جهلاء ، فهذّبهم، ووصف الله سبحانه جهلة الأعراب بقوله: { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم }، ثم قال سبحانه: { ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ... } الخ الآية.
وهكذا الكلام السابق إنما يتنزل على من لم يتخلق بأخلاق الإسلام ويتأدب بآدابه، سواءً كان من البربر أو غيرهم ، إلا أنه إذا انضاف إلى البعد عن هدي الإسلام الطبائع المشار إليها ، لم يبعد ما ذُكر، والله أعلم.
وللحديث بقية