بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم إلى يوم الدين , أما بعد :
من نِعم الله جل وعلا على أهل السنة والجماعة أنهم لا يتعصبون لإمام من أئمتهم , فإن خالف الحق بيّنوا مخالفته وذكروا الصواب في المسألة , ولا يتابعونه على مخالفته , فهم اتباع الدليل أين ما كان أخذوا به وقالوا به .
بخلاف فرق أهل البدع فهم يتابعون أئمتهم وإن ظهر لهم مخالفتهم للحق إلا أنهم يتعصبون لهم على باطلهم وإن اعترفوا بمخالفتهم اعترفوا على استحياء .. وبناءً على هذا الفهم السقيم منهم , تجد بعض جهلة أهل البدع حينما يجدون بعض المخالفات لمن ينتسب لأهل السنة والجماعة من العلماء يلزمون أهل السنة والجماعة بمخالفة هذا الإمام ويقولون انظروا فلان إمامكم وشيخكم قال كذا وكذا إذاً هذه عقيدتكم يا أهل السنة !!
و بنحو هذا القول قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :" و من نصب شخصا كائنا من كان فوالى و عادى على موافقته في القول و الفعل فهو من الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا و إذا تفقه الرجل و تأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة و المشايخ فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن و العمل به فهذا زاجر .
و كمائن القلوب تظهر عند المحن و ليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه و لا يناجز عليها بل لأجل أنها مما أمر الله به و رسوله " اهـ المراد [ الفتاوى 20 / 8 ـ 9 ]
و قال رحمه الله : " و ليس لأحد أن ينصب للعامة شخصا يدعو إلى طريقته و يوالي و يعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم و لا ينصب لهم كلاما يوالي و يعادي غير كلام الله ورسوله و ما اجتمعت عليه الأمة بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة و يعادون " اهـ المراد [ الفتاوى 20 / 164 ]
وهاهنا أمرين :
الأول : أهل السنة والجماعة لا ينبغي الاحتجاج عليهم إلا بما قاله الله جل وعلا وصح الخبر عن رسوله صلى الله عليه وسلم , أما الاحتجاج عليهم بقول وفعل فلان من العلماء والمشايخ فهذا من منهج أهل البدع الذين عجزوا عن إسكات خصوهم من أهل السنة والجماعة بالكتاب والسنة فلجئوا إلى هذه الطريقة الضعيفة بالاستدلال بمخالفات العلماء التي جانبوا فيها الصواب , والذي يتعصب للعلماء ويوالي عليهم ويعادي عليهم رغم أن مخالفاتهم للحق جلية فإنهم إما جهّال يُعلمون أو أهل بدع يزجرون , فتنبه لهذا .
والثاني : أن العبرة بالاحتجاج على أهل السنة والجماعة في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما صح فيه الخبر [ فقط ] وأما وجود المرويات في الكتب - غير صحيح البخاري ومسلم - فلا يجوز الاحتجاج عليهم به خصوصًا إذا المصنف والمؤلف قد ذكر إسناد الخبر ,لأن فيها الضعيف - بأنواعه - والصحيح , ويعرف ذلك بدراسة الاسانيد وأقوال العلماء الحفاظ المبرزين أهل الاختصاص بهذا الفن.
وبعد , فإن فهمت ما سبق , أدخل معك في محتوى المقال , وهو أن أهل البدع كالخوارج الإباضية يكثرون من الاحتجاج بكتاب القاضي أبو يعلى الفراء ت 458 هـ رحمه الله تعالى الموسوم بـ ( إبطال التأويلات لأخبار الصفات ) لكي يشوهوا عقيدة أهل السنة والجماعة لوجود كثير من المرويات الموضوعة والضعيفة في هذا الكتاب , وهاهنا أبين بإذن الله القول الفصل في هذا الكتاب باختصار , وذلك بأن يعلم القارئ أن أهل السنة والجماعة يفوضون الكيفية ويثبتون معاني الصفات الثابتة لله عز وجل كما جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة , أما القاضي أبي يعلى رحمه الله فإنما هو من الذين يفوضون المعنى خلافًا لما أتفق عليه أهل السنة والجماعة في تفويض الكيفية لا المعنى .
بدليل قوله غفر الله له :" وأما ألفاظ هذه الأحاديث فأنها تتضمن إثبات الصورة وإثبات الرؤية ، وقد تقدم الكلام في ذلك فيما قبل وتتضمن زيادة ألفاظ في الرؤية لا يجب أن يستوحش من إطلاقها ، لوجهين: أحدهما : أن أحمد قال في رواية حنبل : لا نزيل عنه صفة من صفات ذاته بشاعة شنعت
الثاني: أننا لا نطلقها على وجه الجوارح والأبعاض، وتغير الأحوال، وإنما نطلقها كما نطلق غيرها من الصفات من الذات والنفس والوجه واليدين والعين وغير ذلك، وليس في قوله : شاب وأمرد وجعد وقطط وموفر إثبات تشبيه ، لأننا نثبت ذلك تسمية كما جاء الخبر لا نعقل معناها ، كما أثبتنا ذاتا ونفسا ، ولأنه ليس في إثبات الفراش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تقريب المحدث من القديم .." اهـ
[ إبطال التأويلات 1/ 146 ]
فقوله " لا نعقل معناها " تفويض للمعنى وهذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة الذين يثبتون المعنى ويفوضون الكيفية .
وأما كتابه رحمه لله ففيه عدة أحاديث موضوعة وكثير من الأحاديث الضعيفة , فلذا كتابه لا يعتمد عليه مطلقًا في إثبات عقيدة أهل السنة والجماعة في صفات الله عز وجل , إنما ينظر لصحة الأحاديث من ضعفها بدراستها دراسة مستفيضة ولا يعتمد على قول القاضي فيها .
والموقف الصحيح من كتاب القاضي ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ::
قال ابن تيمية رحمه الله :" وقد صنّف القاضي أبو يعلى كتابه في " إبطال التأويل " ردّا لكتاب ابن فورك، وهو - وإن كان أسند الأحاديث التي ذكرها وذكر من رواها - ففيها عدّة أحاديث موضوعة ، كحديث " الرّؤية عيانا ليلة المعراج "، ونحوه.
وفيها أشياء عن بعض السّلف رواها بعض النّاس مرفوعةً كحديث قعود الرّسول صلّى الله عليه وسلّم على العرش ، رواه بعض النّاس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلّها موضوعة ، وإنّما الثّابت أنّه عن مجاهد وغيره من السّلف ... ولهذا وغيرِه تكلّم رزق الله التميمي وغيره من أصحاب أحمد في تصنيف القاضي أبي يعلى لهذا الكتاب بكلام غليظ ، وشنّع عليه أعداؤه بأشياء هو منها بريء كما ذكر هو ذلك في آخر الكتاب .
وما نقله عنه أبو بكر بن العربي في " العواصم " كذب عليه عن مجهول ، لم يذكره أبو بكر، وهو من الكذب عليه ، مع أنّ هؤلاء - وإن كانوا نقلوا عنه ما هو كذب عليه - ففي كلامه ما هو مردود نقلا وتوجيها ، وفي كلامه من التّناقض من جنس ما يوجد في كلام الأشعريّ والقاضي أبي بكر الباقلاّني وأبي المعالي وأمثالهم ممّن يوافق النّفاة على نفيهم ، ويشارك أهل الإثبات على وجه !
يقول الجمهور: إنّه جمع بين النّقيضين ..." اهـ [ درء تعارض العقل والنّقل 3/19 ].
وقال رحمه الله في صفحة 302 في معرض ذكر أصناف من غلط بسبب بعده عن النّصوص:" ونوع ثالث : سمعوا الأحاديث والآثار، وعظّموا مذهب السّلف ، وشاركوا المتكلّمين الجهميّة في بعض أصولهم الباقية ، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمّة السنّة والحديث ، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها ، ولا من جهة الفهم لمعانيها ، وقد ظنّوا صحّة بعض الأصول العقليّة للنّفاة الجهمية ، ورأوا ما بينهما من التعارض.
وهذا حال أبي بكر بن فورك ، والقاضي أبي يعلى ، وابن عقيل ، وأمثالهم.
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التّأويل ، كما فعله ابن فورك وأمثاله في الكلام على مشكل الآثار.
وتارة يفوّضون معانيها ويقولون : تجري على ظواهرها ، كما فعله القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك.
وتارة يختلف اجتهادهم ، فيرجّحون هذا تارة ، وهذا تارة ، كحال ابن عقيل وأمثاله " اهـ
خلاصة القول :
أن الاعتماد على كتاب القاضي رحمه الله والاحتجاج به على أهل السنة والجماعة احتجاج في غير محله ومخالف لمنهجهم بالاستدلال لأمور بينتها فيما سبق .
وأظن أن في الكلام السابق كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد , وعَلِمَ أن الحجة هو ما صح فيه الخبر , لا ما قاله فلان وعلان , ولا الاحتجاج بأمر فقط لوجوده في كتاب المذاهب إلا إذا التزموا ما فيه أو التزموا القول فهنا يمكن إلزامهم بلوازم هذا القول .
والله أعلم , وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
وكتب : أحمد بن عايد العنزي
9 رمضان 1435 هـ