تحت عنوان: (مفهوم كون البشر خليفة لله عز وجل) كتب آية الله السيد محمد حسن النجفي القوجاني في كتابه السياحة الشرقية ما يلي حول ملائكة الله تعالى:
"أحد المعممين الرشتيين لما فرغ من قراءته للصحف قال لي: يا فلان، إني مهما فكرت في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) أجد إيراد الملائكة على خلق هذا المفسد السفاك واردا وفي محله، ويتضح ذلك لمن له علم بالتاريخ. فرأيت الفرصة مناسبة لأشفي غلتي بإفراغ الغيظ على رؤوس الملائكة المقدسين، فقلت:
سماحة الشيخ، خيالك فاسد، بل تورد عليه إشكالات عديدة من جهات عديدة وهي كالآتي:
أولا: بعد المعرفة بأن الله عز وجل خالق الخلق وولي النعمة والمحيط بجميع الخلايق، ما يرى منها وما لا يرى، علما وقدرة، والإدراك بأنه خير محض، ولما أن الخير المحض لا يصدر عنه إلا الخير، طبعا يجب أن يسلموا الأمر إليه، مذعنين معترفين له بتفويض الأمر إليه بدلالة لسان الحال والقال.
ثانيا: لما أن الله عز وجل قد أحاط علما بالصلاح والفساد، وإن استشارهم كما يبدو، إلا أنه فعل ذلك لتعليم العباد على أن يستشير السلاطين والرؤساء العقلاء لحفظ النظام الاجتماعي، وإلا فإنه فعال لما يشاء ولا حاجة له بمشير ومشار، وقد استشارهم مجازا، وكن من الواجب عليهم أن يعترفوا بجهلهم ويقولوا: الله عز وجل أعلم بأزِمّة الأمور كلٌ بيدك، لا أن يتجبروا ويزدادوا غرورا وعجبا بأنفسهم ويجهلوا المقام كأنما هو أحد القالين وقد استشارهم على أن أريد أن أزرع البطيخ هذا العام بدل الحنطة فما تقولون؟ وهم أجابوه بما ترتبت عليه هذه المفاسد.
ثالثا: لم يكتفوا بهذا المقدار، فتكبروا واغتروا إزاء قوله: الله أكبر من أن يوصف وأنه المنعم الحقيقي (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) فأصابتهم الأنانية والتكبر والعجب، وجميع هذه الأمور محرمة.
رابعا: اغتابوا آدم ومدحوا أنفسهم وكلاهما محرمان.
خامسا: عدوا الله بحاجة إلى عبادتهم قائلين: إن الإنسان مفسد غير عابد إلا أننا نعبدك ونقدسك، فاقتنعْ بهذا المقدار من العبادة، إذ التوقع من الإنسان على أن يعبدك توقعا في غير محله، العياذ بالله، أو أنه طمع السذج. فلو لم يسجدوا لآدم كما أمرهم الله لأصبحوا أسوأ من إبليس، لأنهم لم يقلوا عنه إيرادا.
سادسا: أخبرنا الصادق المصدق أن طعام الملائكة التسبيح والتهليل، إذن هم لبقائهم والتذاذهم يعبدون الله عز وجل، أي أن عبادتهم كأكلنا نحن الطعام، وعليه (هم) يعبدون لأنفسهم وينسبونها إلى الله عز وجل، فكأنما يريدون خديعة الله عز وجل، أما نحن بنو آدم، فلو عمل شخص عملا لنفسه ثم من على آخر أني قمت بهذا العمل لك، يسمى بالمنافق والمدلس.
سابعا: عبادتهم لا تتجاوز التسبيح والتقديس، بينما عبادة بني آدم تحميد وتشكر وتسبيح وتقديس، وعليه يكون نطاق عبادة ابن آدم أوسع من الملائكة. بعبارة أخرى: عبادة الملائكة غير شاملة، بل هي كالحيوان من طرف واحد حيث ينظرون إلى الله عز وجل بعين واحدة بخلاف الإنسان. مثلا عبادة الإنسان فيها قيام وهي عبادة النبات، وفيها ركوع وهي عبادة الحيوان وفيها سجود وهي عبادة المعدن، وفيها تسبيح وتهليل وهي عبادة الملائكة. بينما الملائكة المساكين منهم قيام لا يركعون، ومنهم ركع لا يسجدون، ومنهم سجد لا يركعون..............
أما السادة الملائكة المقدسين أصحاب النظرة البسيطة الساذجة، كالمقدسين من أبناء آدم يرون الديانة بغسل الأيدي وتطهيرها. فالسادة الملائكة دون هم وغم ومرض وألم، ودون فقدان طبيب في المنزل ودون شماتة عدو ودون حرب وجهاد وزوج وطفل وكسب وزرع، ودون زمهرير وحمّارة غيض، ودون شهوة وغضب وشيطان ومشاق وعناء، ومع كل هذا الأمن والهدوء اللذين أعطاهم الله عز وجل، يقولون: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، تبا لهذه الجهالة والحقارة وسحقا.
فلو أن أحد الآدميين مع كل تلك الابتلاءات تظاهر بإقامته لصلاة الليل وأظهر القداسة، لامه العقلاء على فعلته وأشكلوا عليه، إذ أن هذه جهالة وأنانية أن يواجه الإنسان النعم الإلهية المختلفة التي وهبه الله بالكفران وأن يعد عمله بشيء يذكر، بل يراه أكبر من جبل أبو قبيس.
تاسعا: الملائكة مع تجردهم عن الأحجبة التي تعيق فهم الإنسان، مع ذلك وصل الغباء بهم إلى درجة حيث لم يدركوا أن ذلك الذي نصبه الله خليفته لا بد وأن يكون أعجوبه الدهر ونادرة الوجود .......كان من الجدير بهم أن يلزموا الصمت وأن لا يبادروا بالمذمة لأن العجلة من الشيطان، بل كان عليهم أن يتحلوا بالصبر والحزم إلى أن يرفع الحجاب عنهم ......الخ
(السياحة الشرقية، ص 364-368)
الناشر: انتشارات أنوار الهدى، قم، 1420هـ ق