التدرج التشريعي في تحريم الخمر وحكمه في ذلك
لقد انتهج الإسلام خطة حكيمة في معالجة الأمراض الاجتماعية عندما سلك بالناس التدرج في تشريع الأحكام ، وهو لطف من الله سبحانه وتعالى وكرامة لعباده؛ حيث لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة ، ولكن أوجبها عليهم مرة بعد مرة ، فقد فرض سبحانه الصلاة على العباد قبيل الهجرة بسنة ونصف تقريبا ، ثم فرض عليهم الزكاة والصوم في السنة الثانية من الهجرة ، وكذلك الخمر سلك الشارع في تحريمها مسلكا فقد كان المسلمون يشربونها في أول الإسلام وهو لهم حلال مدة إقامته عليه الصلاة
والسلام بمكة ، فلما هاجر إلى المدينة بدأ الحق سبحانه بالتنفير منها عن طريق المقارنة بين شيئين: شيء فيها نفع ضئيل وشيء فيه ضرر جسيم . وقد أدرك بعض الصحابة شيئا من ضررها ، فكانوا يتوقعون تحريمها ، فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فنزل سبحانه { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } (1) فتركها قوم لقوله: { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } (2) وشربها قوم لقوله { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } (3) ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما ودعا إليه ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعمهم وسقاهم الخمر وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } (4) أعبد ما تعبدون . بحذف لا ، فكانت هذه الحادثة تمهيدا لتحريمها عليهم أوقات الصلاة ونزل قوله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (5) فحرم الله السكر تحريما جزئيا في أوقات الصلاة ، فلم يبق للمصر على شربها إلا الاغتباق بعد صلاة العشاء وضرره قليل ، وكذا الصبوح من بعد صلاة الفجر لمن لا عمل له ولا يخشى أن يمتد سكره إلى وقت الظهر ، ثم تركهم - جلت حكمته - على هذه الحال زمنا قوي فيه الدين ورسخ اليقين وكثرت الوقائع التي ظهر بها إثم الخمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) سورة البقرة الآية 219
(3) سورة البقرة الآية 219
(4) سورة الكافرون الآية 1
(5) سورة النساء الآية 43
وفي تحريم الخمر بهذا الترتيب حكمة بليغة ، وذلك أن القوم ألفوا شرب الخمر وأصبحت جزءا من حياتهم ، فلو حرمت عليهم دفعة واحدة لشق ذلك على نفوسهم ، فإنه من الصعب جدا أن يتركوا شرابا طالما عاقروه وشبوا عليه وشابوا ، فلو أمروا بترك الخمر أول مرة لكان ذلك صادا للكثير من المدمنين عليها عن الإسلام ، بل عن النظر الصحيح المؤدي إلى الاهتداء به ، ولذلك روي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم لقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب ؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة ، فقال: إن خدمة الرب واجبة . فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء ، فقال: اصطناع المعروف واجب ، فقيل له: إنه ينهى عن الزنا ، فقال: هو فحش وقبيح في العقل وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه ، فقيل له: إنه ينهي عن شرب الخمر ، فقال: أما هذا فإني لا أصبر عليه فرجع وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه . فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات .
الوقت الذي حرمت فيه الخمر
اختلف في بيان الوقت الذي حرمت فيه الخمر ، فقال الدمياطي في سيرته بأنه كان عام الحديبية ، والحديبية كانت سنة ست من الهجرة . وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد ، وذلك سنة أربع على الراجح .
قال صاحب الفتح وفيه نظر ، لأن أنسا كان الساقي يوم حرمت ، وأنه لما سمع المنادي بتحريمها بادر بإراقتها ، فلو كان ذلك سنة أربع لكان يصغر عن ذلك ، وأضاف قائلا: والذي يظهر أن تحريمها كان عام الفتح سنة ثمان ، لما روى أحمد من طريق عبد الرحمن بن وعلة قال: سألت ابن عباس عن بيع الخمر فقال: « كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس ؟ فلقيه يوم الفتح بروية يهديها إليه ، فقال: يا فلان أما علمت أن الله حرمها ؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها ، فقال إن الذي حرم شربها حرم بيعها » (1) .
ولا مانع من صحة الأقوال المذكورة كلها حيث يمكن الجمع بينها ، وذلك بأن يحمل ما ذكره الدمياطي على تحريم المسكر في الأوقات القريبة من القيام إلى الصلاة
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1579),سنن النسائي البيوع (4664),مسند أحمد بن حنبل (1/230),موطأ مالك الأشربة (1598),سنن الدارمي البيوع (2571).
يتبع