⑇♒⑇ضوابط الضرورة⚬⚬ في الشريعة الإسلامية⑇♒⑇
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، أما بعد ...
فإن لموضوع الضرورة أهمية بالغة جدًّا ؛ إذ كثر غلط الناس في تلك المسألة ، وذلك من عدة جهات :
أولاً : من جهة تنزيلها ؛ فقد تساهل كثير من الناس في ارتكاب محرمات ومحظورات شرعية بحجة أن ذلك من قبيل الضرورة الشرعية ، مرددين : (الضرورات تبيح المحظورات) .
ثانياً : من جهة ضبط هذه الحالة بضوابطها الشرعية ؛ فلئن صدق على بعض
الحالات أنها من باب الضرورة إلا أن كثيراً من أهل الضرورات تجاوزوا حد الضرورة ، وتوسعوا في استباحة المحرمات وفعل المحظورات .
وثالثاً : من جهة الرضا بالواقع ، فقد استسلم معظم الناس إلى نعمة الترخص ، ورغبوا في استبقاء هذه النعمة وعدم زوالها ، مع أن مسألة الترخص تعتبر من
الأمور العارضة والقضايا الطارئة ، إلا أنها صارت في كثير من الأحيان عند بعض
الناس ذريعة إلى التخلص والتفلت من الالتزام بقيود هذه الشريعة ، والأخذ بعزائم أحكامها .
ومن الأمثلة على ذلك : التساهل في ممارسة بعض أنواع المعاملات المالية المحرمة ، واستقدام من لا يجوز استقدامه من الأيدي العاملة وغيرها ، والسفر إلى مواطن الفتنة وأماكن الرذيلة والفساد ، ودخول المرأة بلا محرم على الطبيب
بصورة مألوفة معتادة ، والخلوة المحرمة بين الرجال والنساء ، والكذب في الحديث .
هذه صور من الواقع تشهد بتفريط كبير وإهمال غير يسير في مناحٍ شتى من حياة الأمة ، وهو انحراف واضح عن جادة السبيل .
ثم : إن أهل الزيغ والهوى كثيراً ما يتعلقون بستار الضرورة في تحقيق
مآربهم ونيل أغراضهم ، فيحمّلون هذه الشريعة باطل صنيعهم وسوء مكرهم ، بل
وربما ينسلخون من الدين كله باسم الضرورة أو الحكمة أو المصلحة .
تلك بعض الأسباب الداعية إلى بيان معنى الضرورة ، وتحديد ضوابطها في هذه الشريعة ، وقد جعلت الكلام مرتّباً في ست مسائل :
1- تعريف الضرورة لغة واصطلاحاً والفرق بينها وبين الحاجة .
2- مدخل لفهم الضرورة الشرعية .
3- أقسام الضرورة الشرعية .
4- حكم العمل بالضرورة الشرعية .
5- ضوابط الضرورة الشرعية .
6- ضوابط العمل بالضرورة الشرعية .
المسألة الأولى : تعريف الضرورة لغة واصطلاحاً والفرق بينها وبين الحاجة :
1- الضرورة في اللغة [1] :
الحاجة والشدة لا مدفع لها ، والمشقة ،
والجمع : ضرورات ، وهي اسم لمصدر الاضطرار .
والاضطرار : الاحتياج إلى الشيء ، واضطره إليه : أحوجه وألجأه فاضطر .
وأصل مادة (ضر) خلاف النفع .
2- الضرورة في الاصطلاح :
أ - عند العروضيين في الشعر ، تطلق الضرورة على الحالة الداعية إلى أن
يرتكب فيها ما لا يرتكب في النثر [2] .
ب- عند أهل الكلام : هي ما لا يفتقر إلى نظر واستدلال ، حيث تعلمه العامة ؛ يقال : هذا معلوم بالضرورة ، أي : بالبديهة [3] .
ج- عند أهل الشريعة من الفقهاء والأصوليين :
المراد بحالة الضرورة عند علماء الشريعة في مثل قولهم : يجوز كذا عند الضرورة أو لأجل الضرورة : تلك الحالة التي يتعرض فيها الإنسان إلى الخطر في دينه أو نفسه أو عقله أو عرضه أو ماله فيلجأ (لكي يخلص نفسه من هذا الخطر) إلى مخالفة الدليل الشرعي الثابت [4] ، وذلك كمن يغص بلقمة طعام ، ولا يجد سوى كأس من الخمر يزيل هذه الغصة .
وقد تواترت الأدلة على أن هذه الشريعة جاءت لحفظ الضروريّات الخمس : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال .
والمراد بالضروريّات : الأمور التي لا بد من المحافظة عليها حتى تستقيم مصالح الدنيا والآخرة على نهج صحيح دون اختلال ، وإنما يكون ذلك بالمحافظة على هذه الأمور الخمسة ، لذا تسمى الضرورات (أو الضروريّات) الخمس ، وتسمى بالكليات الخمس أيضاً ؛ لكونها جامعة لجميع الأحكام والتكاليف الشرعية ، فهي كلية تندرج تحتها جميع جزئيات الشريعة ، وتسمى أيضاً بمقاصد الشرعية ؛ لما ثبت بالاستقراء التام لهذه الشريعة دقيقها وجليلها : كون المحافظة على هذه الأمور الخمسة أمراً مقصوداً للشارع [5] .
لذلك : صح عند العلماء جعل المحافظة على الأمر الضروري أصلاً ثابتاً لا يتغير أبداً ، وأساساً قائماً لا يتعرض للخدش بوجه من الوجوه ، وتسمى المحافظة على هذا الأمر الضروري حالة ضرورة إن ترتبت عليه مخالفة لحكم شرعي ثابت .
وقد يقول قائل : ألا يعد العمل بالضرورة نقضاً وهدماً لأدلة الشرع ؛ إذ فيه مخالفة واضحة للدليل الشرعي الثابت ؟
فالجواب : إن العمل بالضرورة وفق
ضوابطها الشرعية لا يعد هدماً لأدلة الشرع ، بل هو عمل بالدليل الشرعي ، إذ الضرورة ثابتة به ، ثم إن العمل بالضرورة مقيد بضوابط تحفظ مقاصد الشريعة وتحققها ، فالعمل بالضرورة مشروع في حدود مقاصد الشرع ومراميه النبيلة .
بل إن العمل بالضرورة من الأمور التي تؤكد شمول هذه الشريعة لشتى الوقائع والحوادث ، وتقرر صلاحها لكل زمان ومكان ، ومواكبتها للأحوال والمتغيرات ، كما أن في العمل بالضرورة تيسيراً ورحمة بالعباد ورعاية لمصالحهم ، ودرءاً للمفاسد عنهم .
2- الفرق بين الضرورة والحاجة [6] :
الضرورة حالة تستدعي إنقاذاً ، أما الحاجة فهي حالة تستدعي تيسيراً وتسهيلاً ، فهي مرتبة دون الضرورة ؛ إذ يترتب على الضرورة ضرر عظيم في إحدى الكليات الخمس ، ويترتب على الحاجة مشقة وحرج ، لكنه دون الضرر المترتب على الضرورة ، وقد تنزل الحاجة منزلة الضرورة : فيما إذا ورد نص بذلك أو تعامل أو كان له نظير في الشرع يمكن إلحاقه به ؛ كتجويز الإجارة وعقد الاستصناع ، وأجرة الحمام .
المسألة الثانية : مدخل لفهم الضرورة الشرعية :
في هذا المدخل ذكر لبعض القواعد الأصولية والفقهية المتعلقة بالضرورة ، ولا بد عند ذكر هذه القواعد من ربطها بموضوع الضرورة كثمرة لهذا المدخل .
1- قاعدة المشقة تجلب التيسير [7] :
معنى هذه القاعدة : أن الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها جاءت بما يقع تحت قدرة المكلف وإن ترتب على فعله مشقة كالجهاد والصوم والحج ، وقد تخرج المشقة على وجه الاعتياد فتسبب حرجاً كبيراً لسبب من الأسباب ؛ فها هنا تصبح هذه المشقة سبباً للتيسير والتخفيف ، والتخفيفات في الشرع على نوعين :
أ - نوع شرع من أصله للتيسير ، وهو عموم التكاليف الشرعية في الأحوال
العادية .
ب - نوع شرع لما يوجد من الأعذار والعوارض ، وهو المسمى بالرخصة ،
وهو المقصود بقاعدة " المشقة تجلب التيسير"
فالقاعدة إذن مجالها : الرخص والعوارض ، والضرورات ؛ كأكل الميتة .
وعلى هذا : فالضرورة من المشقة التي تجلب التيسير والتخفيف .
2- قاعدة الرخص :
الرخصة في الشريعة هي : (الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر) [8] .
وتنقسم الرخصة باعتبار سببها إلى أقسام [9] منها :
أ - رخصة بسبب السفر .
ب - رخصة بسبب المرض .
ج - رخصة بسبب الاضطرار ، فالضرورة إذن من أسباب الترخص .
3- قاعدة الاستحسان :
الاستحسان في الشرع : (العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها
إلى خلافه لوجه هو أقوى منه) [10]
فهو إذن : قطع المسألة عن نظائرها على
عكس القياس الذي هو إلحاق المسألة نظائرها ، وهذا الوجه القوي الذي أوجب قطع المسألة عن نظائرها قد يكون نصًّا أو إجماعاً أو قياساً خفيًّا أو ضرورة ، فيعمل
بالدليل الأقوى وهو أمر مستحسن ، ولهذا سمي استحساناً [11] ،
وذلك مثل النظر إلى الأجنبية : لا يجوز لأحد أبداً لكنه جاز للطبيب ضرورة ، فالاستحسان قد يستند إلى النص أو الإجماع أو الضرورة ، فالضرورة إذن تصلح مستنداً للاستحسان .
4- قاعدة المصالح المرسلة [12] :
المصلحة عموماً قد تكون شرعية إن جاء بطلبها دليل خاص من الشرع ، وقد
تكون ملغاة إن جاءت على خلاف نصوص الشريعة ومقاصدها ، وقد تخلو عن
الدليل الطالب والمانع فتكون مرسلة .
وتنقسم المصلحة المرسلة باعتبار قوتها إلى ثلاثة أقسام :
فأقواها المصلحة الضرورية ، ثم الحاجية ، ثم التحسينية .
والمراد بالمصلحة المرسلة الضرورية : المحافظة على الأمور الضرورية التي لم يدل على اعتبارها دليل خاص ، وهذه المحافظة بينة ظاهرة في حالة كون الضرورة ثابتة بطريق الاجتهاد ، فالضرورة إذن قد تكون من قبيل المصالح المرسلة .
5- قاعدة الضرر يُزال [13] :
هذه القاعدة من القواعد الفقهية الكبرى ، وهي تشمل أصلين مهمين :
أ - النهي عن إيقاع الضرر ابتداءً ، باتباع شتى وسائل الوقاية والحماية لئلا
يقع الضرر .
ب - وجوب رفع الضرر إن وقع باتباع أفضل السبل العلاجية .
وقول الرسول : (لا ضرر ولا ضرار) [14] يشمل هذين الأصلين ، وفي الأخذ بالضرورة تحقيق لهذه القاعدة .
وخلاصة ما تقدم أن يقال : إن وقوع الضرورة لون من ألوان المشقة التي
تستدعي تيسيراً وتسهيلاً في هذا الدين ، وذلك أيضاً سبب من أسباب الترخص ،
فتدخل الضرورة لذلك في باب الرخص ،
وبالنظر في الدليل المحرّم نجد أن الضرورة حالة استثناء توجب العدول عن العمل وفق هذا الدليل ، وهذا هو الاستحسان ،
وإذا نظرنا إلى جدوى العمل بالضرورة أدركنا أنها ولا شك تحقق مصلحة راجحة ، فهي داخلة في باب المصالح ، كما أنها تدرأ ضرراً ومفسدة ، فهي بهذا تندرج تحت قاعدة (الضرر يزال) .
المسألة الثالثة :
أقسام الضرورة :
تنقسم الضرورة باعتبارات متعددة إلى أقسام كثيرة ، وذلك على النحو الآتي :
أ - أقسام الضرورة باعتبار متعلقها :
1- ضرورة تتعلق بحفظ الدين ، مثل : قتل الشيوخ والنساء والأطفال في الجهاد إذا تحصن بهم العدو ، حفظاً للدين .
2- ضرورة تتعلق بحفظ النفس ، مثل : أكل الميتة حفظاً للنفس .
3- ضرورة تتعلق بحفظ العقل ، مثل : أكل الميتة ؛ حفظاً للعقل .
4- ضرورة تتعلق بحفظ النسل ، مثل : دفع المال للعدو الكافر ؛ حفظاً لعرض امرأة مسلمة .
5- ضرورة تتعلق بحفظ المال ، مثل : إفساد قليل المال حفظاً لأكثره .
ب - أقسام الضرورة باعتبار الشمول :
1- ضرورة عامة : كوقوع الأُمّة في قحط عميم .
2- ضرورة خاصة : كوقوع رجل في مخمصة .
ج - أقسام الضرورة باعتبار الدليل الدال عليها :
1- ضرورة أثبتها النص : كالأكل من الميتة للمضطر [ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي
مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ] [المائدة : 3] .
2- ضرورة تثبت بالاجتهاد : كما في باب المصالح المرسلة إن كانت ضرورية .
المسألة الرابعة : حكم العمل بالضرورة الشرعية :
وفي هذه المسألة ثلاثة أمور :
أولاً : الأدلة على مشروعية العمل بالضرورة من حيث الجملة :
1- من القرآن : [ إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ
لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ] [البقرة :
173] [ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاًكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْه ] [الأنعام : 119] .
2- من السنة : عن أبي واقد الليثي قال : قلت يا رسول الله : إنا بأرض
تصيبنا مخمصة فما يحل لنا من الميتة ؟ فقال : إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بها بقلاً ، فشأنكم بها [15] .
3- الأدلة الكثيرة والشواهد المتعاضدة الدالة على أن هذه الشريعة مبنية على
التيسير والتخفيف [16]
مثل : [ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ] [الحج : 78]
[ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ
ضَعِيفاً ] [النساء : 28]
[ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ] [البقرة : 185]
(بعثت بالحنيفية السمحة) [17] .
4- الأدلة الكثيرة والشواهد المتعددة الدالة على رعاية هذه الشريعة لمصالح
العباد من جهة ودرء المفاسد عنهم من جهة أخرى [18] .
ثانياً : حكم العمل بالضرورة الشرعية : العمل بالضرورة الشرعية واجب وليس جائزاً ، والدليل على ذلك :
1- قاعدة الواجب لا يترك إلا لواجب [19] : - مثل قطع اليد فإنه محرم ، وحفظ هذا العضو من الإنسان أمر واجب ، لكن هذا الواجب يترك عند السرقة ، فتقطع اليد ، ولو لم يكن القطع واجباً بالنسبة للسارق لكان هذا الفعل حراماً ، فتُرك الواجب وهو حفظ العضو لواجب أهم منه وهو إقامة حدود الله .
2- قاعدة للوسائل حكم المقاصد : [20] فأكل الميتة للمضطر واجب ، لأن حفظ النفس واجب ، وهو لا يتم إلا بوسيلة ، هي الأكل من الميتة ، وهذه هي قاعدة : (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
ومن الخطأ أن يقال : إن هذا الفعل يجوز للضرورة [21] ،
بل الصحيح أن يقال : يجب أن يشرع عند الضرورة .
أما قول العلماء (الضرورات تبيح المحظورات) ، فهو بالنظر إلى أثر الضرورة في تغيير حكم الفعل ونقله من الحظر والمنع إلى الإذن والإباحة ، وأما الأخذ بالضرورة فإنه واجب .
ولعل هذا يتضح إذا علمنا أن للضرورة أحوالاً ، وإليك بيان ذلك :
ثالثاً : أحوال الضرورة باعتبار تغييرها لحكم الفعل [22] :
1- ما يفيد إباحة المرخص به حال قيام الضرورة ، فالفعل ها هنا يصبح
مباحاً ، بل واجباً كالاضطرار لأكل الميتة .
2- ما يفيد جواز الإقدام على المرخص به حال الضرورة ، مع بقاء الحرمة ،
كإجراء كلمة الكفر على اللسان .
3- ما لا يباح أصلاً ولو للضرورة كقتل المسلم ، وذلك فيما إذا كان الفعل
منهيًّا عنه لذاته .
المسألة الخامسة : ضوابط الضرورة الشرعية :
هناك شروط وقيود لا بد من حصولها في حالةٍ ما ؛ ليسوغ تسميتها ضرورة شرعية ، ولا يمكن أن تكون تلك الحالة ضرورة شرعية مع تخلف شيء من هذه الضوابط ، وإليك بيان هذه الضوابط مع الاستدلال لها :
1- قيام الدليل المحرّم ورجحان العمل به : كأكل الميتة ؛ فإن الدليل على
تحريم الميتة قائم ، والعمل به راجح ؛ فلا يجوز أكل الميتة ، إلا أنه جاز للمضطر
مخالفة هذا الدليل والعمل على خلافه ، ويحترز بذلك عما إذا كان الدليل مبيحاً أو موجباً ، كمن يضطر ، لكنه يجد شيئاً من الماء يسد به رمقه ، فلا ضرورة ها هنا ، لعدم وجود المخالفة المترتبة على قيام الدليل المحرّم [23] .
ومن هنا : عُلِمَ أن حالة الضرورة مبنية على مخالفة ما يعتقد رجحان تحريمه ، كمن يرى حرمة اللحوم المستوردة ، فإن أكله منها لإنقاذ نفسه من الموت يعتبر ضرورة ، وليس من الضرورة بالنسبة لمن يرى جواز تناول هذه اللحوم .
2- أن يترتب على الامتثال للدليل الراجح المحرّم ضرر متعلق بإحدى الكليات الخمس :
كأن تتعرض نفسه للهلاك إن لم يأكل من الميتة ويحترز بهذا عن انتفاء الضرر :
كأن يوجد الدليل المحرّم لكنه لا يضطر إلى مخالفته بأكل الميتة ، فيما إذا كان في الأحوال العادية ، فلا ضرورة ها هنا ؛ لعدم الحاجة الشديدة إلى المخالفة ؛ إذ إن الضرر لا وجود له .
ووجه هذا الضابط ودليله : القاعدة المعروفة (الضرر يُزال) فلتراجع مع
أدلتها .
3- أن يكون حصول الضرر أمراً قاطعاً أو ظنًّا غالباً ، ولا يلتفت إلى الوهم والظن البعيد ، كأن يكون المضطر في حالة تسمح له بانتظار الطعام الحلال الطيب ، فلا يقدم على تناول الميتة والحالة كذلك حتى يجزم بوقوع الضرر على نفسه فيجوز حينها تناول الميتة ،
ودليل ذلك : ما علم في الشريعة من أن الأحكام تناط باليقين ، والظنون الغالبة ، وأنه لا التفات فيها إلى الأوهام ، والظنون المرجوحة البعيدة [24] ،
وقد تقدم في حديث أبي واقد قوله : (إذا لم تصطبحوا ... ) ما يدل بوضوح على أن الإقدام على المخالفة لا يتم إلا بعد التيقن والجزم بحصول الضرر .
4- ألاّ يمكن دفع هذا الضرر إلا بالمخالفة وعدم الامتثال للدليل المحرّم ، فإن أمكن المضطر أن يدفع هذا الضرر بأمرين أحدهما جائز والآخر ممنوع ، حرم عليه ارتكاب المخالفة للدليل المحرم ، ووجب عليه دفع الضرر بالأمر الجائز ، كأن يغص بلقمة وأمامه كأسان من الماء والخمر ،
ووجه هذا القيد ما ورد في ذلك من قواعد مثل : (إذا ضاق الأمر اتسع ، وإذا اتسع ضاق) (الضرر يدفع قدر الإمكان) لتراجع مع أدلتها .
5- ألا يعارض هذه الضرورة عند ارتكابها ما هو أعظم منها أو مثلها ، كأن يأكل المضطر طعام مضطر آخر ،
ووجه ذلك ما ورد من قواعد مثل :
(الضرر لا يُزال بمثله) و (يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) و (يرتكب أخف
الضررين لدفع أعظمهما) و (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) .
وكذلك : فإن الضرورة تسقط ولا يلتفت إليها إن ترتب على الأخذ بها إخلال
بمبادئ الدين ومقاصد الشريعة : كقتل المسلم ، والزنا ، فهذه لا ضرورة تحلها ؛ لأن تحريمها جاء على سبيل القصد والتعيين ، لا على سبيل الذريعة والتكميل ، كتحريم النظر إلى الأجنبية ، فإنه ذريعة للزنا ؛ لذلك : يترك العمل به عند الضرورة [25] ،
ووجه ذلك قاعدة : ( الضرورات تبيح المحظورات ، بشرط عدم نقصانها ... عنها) [26] .
من يُقدّر الضرورة ؟
إذا كانت الضرورة عامة للأمة أو لكثير منها فإن تطبيقها على الوقائع وتنزيلها على الحوادث لا يتأتى إلا ممن له علم بالواقع ، وعنده تمام الدراية
بملابسات الأمور وأبعادها ؛ ذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، ويكفي
أولي العلم قولُ من يوثق بدينه وعلمه من أهل المعرفة في كل واقعة .
أما إن كانت الضرورة خاصة بإنسان ما :
فإن تطبيقها يختص به كمن ؛ وقع
في مفازة ووجد ميتة .
والواجب على الجميع تقوى الله قدر المستطاع والتثبت من الأحوال والوقائع ، ثم الأخذ بهذه الضرورة وفق ضوابطها وقيودها المذكورة دون بغي ولا اعتداء ،
كما قال سبحانه : [ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ] [البقرة : 173] .
وصفوة هذه الضوابط مجموعة في الأسئلة التالية :
1- هل الدليل المحرّم قائم ومتجه والعمل به راجح ؟ ...
إن كان الجواب : نعم ...
2- فهل يترتب على الامتثال بهذا الدليل ضرر يتعلق بالكليات الخمس ؟ ..
إن كان الجواب نعم ...
3- فهل حصول هذا الضرر محقق مقطوع به أو ظن غالب ؟ ..
إن كان الجواب : أنه كذلك مقطوع به أو ظن غالب وليس وهماً ولا ظنًّا بعيداً ...
4- فهل يمكن دفع هذا الضرر المؤكد بطريق آخر دون حصول مخالفة للدليل المحرّم ؟ ..
إن كان الجواب : أن ذلك لا يمكن إلا بمخالفة الدليل المحرّم ...
5- فهل يترتب على مخالفة الدليل المحرّم عند العمل بالضرورة حصول ضرر أكبر أو مماثل ؟ إذ لا يصح العمل بالضرورة فيما لا يباح الترخص فيه ،
وذلك إذا كان الفعل منهياً عنه لذاته ، ثم إن العمل بالضرورة لا بد فيه من مراعاة ما يأتي في ضوابط العمل بالضرورة :
المسألة السادسة : ضوابط العمل بالضرورة الشرعية :
إذا اجتمعت الضوابط السابقة في حالة ما ، صح أن تعد هذه الحالة ضرورة شرعية يؤخذ بها ويستند إليها ،
لكن العمل بالضرورة مع كونه واجباً لا بد فيه من ضابطين ، هذا بيانهما :
الضابط الأول : أن تقدر هذه الضرورة بقدرها ، من حيث الزمان والمكان
والكم والكيف ، فلا بد من تحديد المقدار الذي يدفع الضرر ويحقق المصلحة ، إذ
تجويز الأخذ بالضرورة مقصور على هذا المقدار ، وما زاد على ذلك يبقى في حيز
التحريم ، فلا يأكل المضطر من الميتة إلا بالقدر الذي يسد رمقه ، وما زاد فهو
حرام [27] .
الضابط الثاني : أن العمل بالضرورة مرتبط بقيام الضرر وتوقعه ، فإن زال
فلا ضرورة ؛ لأن الأخذ بالضرورة استثناء وبدل كالتيمم لا يجوز مع وجود الماء ؛
إذ الماء أصل والتيمم بدل ، والعمل بالبدل لا يجوز مع وجود الأصل ، فبمجرد
زوال العذر وارتفاع الضرر أو اختلال أحد الضوابط يبطل العمل بالضرورة ،
ووجه هذا الضابط : القاعدة التي تقول : (ما جاز لعذر بطل بزواله) [28] .
ومن هنا يتبين وجوب السعي الجاد لإزالة هذه الضرورة وبذل الجهد في سبيل رفعها ، وإنما يكون ذلك بالأخذ بأسباب النجاة والاحتياط في مواجهة الأزمات قبل وقوع الخطر بتوقعه واتقائه قدر الإمكان ، وعند وقوعه بمقاومته ومحاولة رفعه أو
تخفيف ضرره ومفاسده ، وعدم الركون له والاستسلام والخنوع ، وبعد وقوعه بمنع
تَكْرَارِه ، والمؤمن لا يُلدغ من جحر واحد مرتين .
إن القيام بفروض الكفاية المعطلة في هذه الأمة كفيل برفع حالات الاضطرار التي تعيشها المجتمعات الإسلامية ، كواجب إعداد القوة ، وإيجاد الهيبة ، ودفع
الباغي ، وسد الخلة ، ونصر المظلوم ، وكفالة الفقير ، وإعالة العاجز ، وتعليم الجاهل ، وقصر الآثم .
اللّهم هيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً ، واهدها إليك صراطاً قيّما مستقيماً ،
وصلّ الله على خير البرية .