ومن مظاهر الحياة الطيبة التي خصَّ الله بها عباده المؤمنين في الدُّنيا:
1- ولاية الله عز وجل، فقد قال تعالى:
{اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
2- ومحبة الله عز وجل للمؤمنين ومحبة الخلق لهم، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً}.
3- ومدافعة الله عن المؤمنين ونصرهم على أعدائهم، قال سبحانه:
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}.
4- والاستخلاف في الأرض والتمكين:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}.
5- والأمن والطمأنينة قال تعالى في بقية الآية السابقة:
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنَاً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}،
وقال تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
6- وحصول العزة وتمام الكرامة والشرف: قال تعالى:
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى}.
7- وحصول نور البصيرة التي تفرِّق بين الحقِّ والباطل، قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً
وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ}.
قال الإمام الغزالي:
(فلا نعمة لله على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة،
ولا وسيلة إليه سوى انشراح الصَّدر بنور البصيرة،
ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية،
ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة).
فالنعيم الحقيقي ليس بالمتع الزائلة، ولا باللذات الفانية،
وإنما بتوثيق الصلة بالله والمعرفة به،
إنَّ حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي
يُعين العبد على أنْ ترضى نفسُه بما أصابه،
فمن استطاع أنْ يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرِّضا بالمقدور فليفعل،
فإنْ لم يستطع الرِّضا، فإنَّ في الصَّبر على المكروه خيراً كثيراً.
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إحداهما: أنْ يرضى بذلك، وهذه درجةٌ عاليةٌ رفيعة جداً،
قال الله عز وجل:
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.
قال علقمة: هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ،
فيعلم أنَّها من عند الله، فيسلِّمُ لها ويرضى.
وعن أنس أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
(إنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضا،
ومن سخط فله السخط) .
وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (أسأَلكَ الرِّضا بعد القضاء) .
وجاء رجلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فسأله أنْ يُوصيه وصيَّةً جامعةً موجَزةً، فقال:
(لا تتَّهم اللهَ في شيءٍ من قضائه) .
وصاحبُ الرِّضا في راحة ولذة وسرور،
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
«إِنَّ اللَّهَ بِقِسْطِهِ وَعَدْلِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضا ,
وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ» .
فالرَّاضي لا يتمنَّى غيرَ ما هو عليه من شدَّةٍ ورخاء،
كذا رُوِيَ عَنْ عمر وابنِ مسعود وغيرهما.
وقال عمر بن عبد العزيز:
أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر.
فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشُه كلُّه في نعيمٍ وسرورٍ،
قال الله تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}
قال بعض السَّلف: الحياة الطيبة: هي الرِّضا والسَّعادة.
وقال عبد الواحد بن زيد:
الرِّضا باب الله الأعظم وجنة الدُّنيا ومستراح العابدين.
وأهل الرِّضا تارةً يلاحظون حكمة المُبْتَلِي وخيرته لعبده في البلاء،
وأنَّه غيرُ متَّهم في قضائه،
وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاء، فيُنسيهم ألم المقتضي به،
وتارةً يُلاحظون عظمةَ المبتلي وجلالَه وكمالَه،
فيستغرقون في مشاهدة ذلك، حتى لا يشعرون بالألم،
وهذا يصلُ إليه خواصُّ أهل المعرفة والمحبَّةِ،
حتى رُبَّما تلذَّذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم،
وسُئلَ السَّرِيُّ:
هل يجد المحبُّ ألم البلاء ؟ فقالَ: لا.
سأل رجل الفضيل بن عياض فقال:
يا أبا علي، متى يبلغ الرجل غايته من حبِّ الله تعالى؟
فقال له الفضيل:
«إذا كان عطاؤه ومنعه إياك عندك سواء،
فقد بلغت الغاية من حُبِّه» .
وقيل ليحيى في مرضه الذي مات فيه: يُعَافِيكَ اللهُ إِنْ شَاءَ اللهُ,
قَالَ: أَحَبُّهُ إِلَيَّ: أَحَبُّهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وقال أحمد بن أبي الحوَارِيّ:
قَالَ لِي أَبُو سُلَيْمَانَ: يَا أَحْمَدُ، أَيَكُونُ شَيءٌ أَعْظَمَ ثَوَاباً مِنَ الصَّبْرِ؟
قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، الرِّضا عَنِ الله!
قَالَ: وَيْحَكَ،
قُلْتُ: إِذَا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُوفِي الصَّابِرِينَ بِغَيْرِ حِسَابٍ،
فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُ بِالرَّاضِي عَنْهِ.
وقال الْفُضَيْلَ بن عِيَاض: أَصلُ الزُّهْدِ: الرِّضا عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وقال بَعْضُ الْخُلَفَاءِ لِأَبِي حَازِمٍ: مَا مَالُكَ ؟
فَقَالَ: الرِّضا عَنِ اللهِ، وَالْغِنَى عَنِ النَّاس.
وقال بعضهم:
«كَمَالُ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ التَّوَاضُعُ لَهُ، وَكَمَالُ التَّوَاضُعِ الرِّضا».
وقال أبو سليمان الدارني:
«الرِّضا عن الله عز وجل والرحمة للخلق درجة المرسلين».
ولما وعد الله المؤمنين جنات عدن، تجري من تحتها الأنهار،
خالدين فيها لا يزول عنهم نعيمها ولا ينفد،
قال تعالى: {وَرضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ}،
فرضوان الله ورضاه عن العبد أكبر من ذلك كلِّه،
كما قال صلى الله عليه وسلم:
إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبّيك ربَّنَا وسعْدَيك!
فيقول: هل رضيتم؟
فيقولون: ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك؟
فيقول: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك.
قالوا: يا ربّ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك!
قال: أُحِلُّ عليكم رضوَاني،
فلا أسخطُ عليكم بعده أبداً.
والدرجة الثانية: أنْ يصبرَ على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرِّضا بالقضاء،
وفي الصَّبر خيرٌ كثيرٌ،
فإنَّ الله أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجر.
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ،
وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
قال الحسن: الرِّضا عزيزٌ، ولكن الصبر معولُ المؤمن.
والفرق بين الرِّضا والصبر:
أنَّ الصَّبر:
كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم،
وتمنِّي زوال ذلك،
وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع،
والرِّضا:
انشراح الصدر وسعته بالقضاء،
وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم، وإنْ وجدَ الإحساسُ بالألم،
لكن الرِّضا يخفِّفُه لما يباشر القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة،
وإذا قوي الرِّضا، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية.
وقد أمر الله تعالى بالصبر الجميل فقال: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً}،
عن الحسن رضي الله عنه قال:
الصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى إلا إلى الله.
قال الإمام الرازي:
فالصبر الجميل هو: أنْ يعرف أنَّ منـزل ذلك البلاء هو الله تعالى،
ثم يعلم أنَّ الله سبحانه مالك الملك،
ولا اعتراض على المالك في أنْ يتصرَّف في ملك نفسه،
فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً له من إظهار الشكاية.
(وهذا الوجه الأول).
والوجه الثاني: أنَّه يعلم أنَّ منـزل هذا البلاء، حكيم لا يجهل، وعالم لا يغفل،
عليم لا ينسى، رحيم لا يطغى،
وإذا كان كذلك فكان كلُّ ما صدر عنه حكمة وصواباً،
فعند ذلك يسكت ولا يعترض.
والوجه الثالث: أنَّه ينكشف له أنَّ هذا البلاء من الحق،
فاستغراقه في شهود نور المُبْلي،
يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء،
ولذلك قيل: المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء،
فهذا هو الصبر الجميل.
أما إذا كان الصبر لا لأجل الرِّضا بقضاء الحق سبحانه
بل كان لسائر الأغراض، فذلك الصبر لا يكون جميلاً،
والضابط في جميع الأفعال والأقوال والاعتقادات
أنَّ كلَّ ما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا.
وقال يحيى بن معاذ:
الصبر الجميل أن يتلقى البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر.
وقال ذو النون المصري:
الصبر التباعد من المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية،
وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وقال أبو علي الدقاق:
فاز الصابرون بعزِّ الدارين؛ لأنَّهم نالوا مِنَ الله معيَّته فإنَّ الله مع الصابرين.
ونظر علي بن أبي طالب إلى عدي بن حاتم كئيباً حزيناً فقال له:
ما لي أراك كئيباً حزيناً؟
فقال: وما يمنعني يا أمير المؤمنين وقد قتل أبي، وفقئت عيني ؟
فقال: «يا عدي بن حاتم، إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجراً،
ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه، وحبط عمله».
وعن عبد الله بن مسعود قال:
«لأن يعض أحدكم على جمرة حتى تطفأ
خير من أن يقول لأمر قضاه الله ليت هذا لم يكن» .
وشكا رجل إلى الحسن سوء الحال وجعل يبكي،
فقال الحسن: يا هذا كل هذا اهتماماً بأمر الدُّنيا،
والله لو كانت الدُّنيا كلها لعبد فسلبها ما رأيتها أهلاً لأن يُبْكَى عليها.
قال صفي الدين الحلي:
كُنْ عن هُمُومِكَ مُعْرِضَا..... وكِلِ الأُمُورَ إلى القَضَا
وابشرْ بِخَيرٍ عَاجِلٍ..... تنسى به مَا قَدْ مَضَى
فلَرُبَّمَا اتَّسَعَ المضيقُ..... ورُبَّمَا ضَاقَ الفَضَا
ولَرُبَّ أمرٍ مُسْخِطٍ..... لَكَ في عواقبه رِضَا
اللهُ يفعلُ ما يشاء..... فلا تكنْ مُعْتَرِضَا
اللهُ عَوَّدَكَ الجميلَ..... فَقِسْ عَلَى مَا قَدْ مَضَى
وعروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنه قطعت ساقُه ومات ولدُه في يومٍ واحد،
فلما جاءه النَّاس ليخفِّفوا عنه ويواسوه،
قال: إني واللَّه لراضٍ عن ربي،
فقد أعطاني اللَّهُ أربعة من الولد فأخذ واحداً وأبقى ثلاثة فالحمد لله،
وأعطاني أربعة أطراف فأخذ واحداً وأبقى ثلاثة، فالحمد لله.
قال بعض العلماء:
من كان نظره في وقت النِّعَم إلى المُنْعِم لا إلى النِّعْمَة،
كان نظرُهُ في وقت البلاء إلى المُبْلي لا إلى البلاء،
فيكون في جميع حالاته غريقاً في ملاحظة الحقِّ،
متوجهاً إلى الحبيب المطلق، وهذه أعلى مراتب السَّعادة.
والله عز وجل لطيفٌ بعباده، وهو أدرى بما يصلحهم،
قال تعالى:
{وَعَسى أن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَعَسَى أن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
فعلى العبد التسليم لأمر الله في كل أمر من أموره،
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«ما أبالي على أي حال أصبحت، على ما أحب أو على ما أكره،
لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره».
وللّه في أثناء كُلِّ مُلمَّةٍ ..... وإنْ آلمتْ، لُطْفٌ يحضُّ على الشُّكرِ
وبعد؛
أَمَا آنَ لكَ أنْ تسلِّم أمرك لله،
وتعلَمَ أنَّ اللهَ أرحمُ بك مِنَ الوالدة بولدها،
فترضى بما كتب الله لك، فيرضى الله عنك،
وتذوق حلاوةَ الإيمان، وتكونَ سعيداً مسروراً في الدراين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ من زكَّاها،
اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين،
اللهم إنَّا نسألك الرِّضا بعد القضاء،
وعيشَ السعداء، ومرافقةَ الأنبياء،
وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّد
وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
انتهى مختصرا