الرد التفصيلي على الاستدلال بأثر مالك الدار على جواز التوسل أو الاستغاثة
كثير ممن يرى والتوسل أو الاستغاثة بغير الله عز وجل يستدلون بأثر مالك الدار خازن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا نص الأثر
قال مالك الدار : أصاب الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتى الرجل في المنام فقيل له: ائت عمر فأقرئه السلام وأخبره بأنكم مستقيون وقل له : عليك الكيس فأتى عمر فأخبره فبكى عمر ثم قال: يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه .
استدل بهذا الأثر تقي الدين علي السبكي في شفاء السقام [ ص 129 – 130 ] ، ومحمد علوي مالكي في مفاهيمه [ ص 89 ] ، ويوسف خطار في موسوعته [ ص 111 – 112 ] ، والدكتور عمر كامل في استغاثته [ ص 27 ] .
هذا الأثر أخرجه ابن أبي شيبة فقال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار ... الحديث [ ص 356 / 6 ] وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة مالك الدار قال : مالك بن عياض الدار أن عمر قال في قحط يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه قاله علي عن محمد بن خازم عن أبي صالح عن مالك الدار [ ص 304 / 7 ] ، وأخرجه الحافز الخليلي في الإرشاد فقال : من طريق أبي خيثمة حدثنا محمد بن خازم الضرير حدثنا الاعمش عن أبي صالح عن مالك الدار .... الحديث [ ص 313 / 3 ] ، وأخرجه البيهقي من طريق يحيى بن يحيى حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح عن مالك ... الحديث [ البداية والنهاية ص 98 / 7 ] .
وقد اختلف العلماء في تصحيح إسناد هذا الأثر فمن من يصححه ومنهم من يعله بعلل كثيرة ، ولا شك أن ظاهره الإسناد الصحة ، ولكنه معلول كما قرره البحث العلمي .
قال الحافظ ابن كثير عنه : (( إسناد صحيح )) [ البداية والنهاية ص 98 / 7 ] ، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : (( وروى بن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار )) [ ص 495 / 2 ] .
ومن تأمل كلام الحافظين علم أنهما لم يصححا المتن بل صححا الإسناد ، وهما على طريقة المتأخرين في تصحيح أحاديث فيمن مثل حال مالك الدار ، قال الألباني : (( ... لأن هناك بعض المحدثين لا يعتمد عليهم في ذلك ، لأنهم شذوا عن الجمهور فوثقوا المجهول ، منهم ابن حبان ....
نعم يمكن أن تقبل روايته إذا روى عنه جمع من الثقات ولم يتبين في حديثه ما ينكر عليه ، وعلى هذا عمل المتأخرين من الحفاظ كابن كثير والعراقي والعسقلاني وغيرهم .. )) [ الروض الداني ص 17 – 18 ] ، فعلى هذا الاعتبار صححا الإسناد ولم يصححا المتن كما هو واضح من عبارتهما ، لأنهما يعلمان جيدا أن الصحيح هو ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، فلذلك اقتصرا على تصحيح الإسناد دون المتن ، والله أعلم .
والآن نذكر علل هذا الإسناد فأولها الأعمش فهو أمام ثقة ثبت ، ولكنه يدلس يسقط ضعيف بين ثقتين وفي جمع الطرق لم يصرح بالسماع ، نعم ذكر الذهبي أنه تقبل عنعنة الأعمش عن أبي صالح لأنه أكثر عنه وطالة ملازمته له ، وحكم الذهبي هذا على الغالب لا على كل حديث أو أثر بعينه ، وكيف إذا عرفت أن البخاري أخرج هذا الأثر مقتصرا على قول عمر رضي الله عنه فهذا يزيد احتمال التدليس ، والله تعالى أعلم .
وقد ثبت تدليس الأعمش عن أبي صالح قال العلائي : (( وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة حديث الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن قال يحيى بن معين لم يسمع الأعمش هذا الحديث من أبي صالح )) [ جامع التحصيل ص 189 ] .
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في السنن فقال : (( حدثنا أحمد بن حنبل ثنا محمد بن فضيل ثنا الأعمش عن رجل عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث )) [ ص 143 / 1 ] .
وقال الحاكم وهو يتكلم عن الأحاديث المعنعنة فذكر حديثا ثم قال : (( هذا حديث رواته كوفيون وبصريون ممن لا يدلسون وليس ذلك من مذهبهم ورواياتهم سليمة وإن لم يذكروا السماع وأما ضد هذا من الحديث فمثاله ما حدثناه أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ثنا محمد بن عبد الوهاب الفراء أنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال ذكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كم مضى من الشهر " ، قلنا ثنتان وعشرون وبقي ثمان فقال : " مضى ثنتان وعشرون وبقى سبع اطلبوها الليلة الشهر تسع وعشرون " ، ثم قال الحاكم : لم يسمع هذا الحديث الأعمش من أبي صالح وقد رواه أكثر أصحابه عنه هكذا منقطعا فأخبرني عبد الله بن محمد بن موسى ثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا خلاد الجعفي حدثني أبو مسلم عبيد الله بن سعيد قائد الأعمش عن الأعمش عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال ذكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كم مضى من الشهر قلنا ثنتان وعشرون وبقى ثمان فقال مضى ثنتان وعشرون وبقى سبع اطلبوها الليلة الشهر تسع وعشرون " )) [ معرفة علوم الحديث ص 35 ] .
ففي هذين المثالين السابقة تبين لك أن الأعمش قد دلس عن أبي صالح ، فحمل كلام الذهبي على جميع النصوص لا يؤيده البحث العلمي ، ففي المثال الأول دلس الأعمش رجلا مبهم ، فاحتمال التدليس ما زال قائمة ، ولا سيما أن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار ليس من شرط البخاري أو مسلم .
قد يقول قائل أن محمد بن خازم أبا معاوية من أحفظ الناس لحديث الأعمش ، فهو يحفظ حديثه الذي دلسه من الذي لم يدلسه ، فالجواب : هذا ليس بلازم وقد ثبت أن أبا معاوية روى ما دلسه الأعمش فالمثال الأول المذكور آنفا أخرجه الترمذي قال : حدثنا هناد حدثنا أبو الأحوص وأبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث [ سنن الترمذي ص 402 / 1 ] ، فسقط هذا الاحتمال بالدليل القاطع .
العلة الثانية في الإسناد هي اختلافهم بين الوصل والإرسال فقد قال الخليلي في الإرشاد بعد ذكر هذا الأثر : (( يقال إن أبا صالح سمع مالك الدار هذا الحديث والباقون أرسلوه )) [ ص 316 / 3 ] ، فالأصل عند الخليلي الإرسال ووصله أبي صالح مخالفة للباقي كما نص الخليلي ، وهذه علة قادح وهذا أيضا مما يجعل المرء يرتاب أكثر من عنعنة الأعمش .
وكلام الخليلي هذا رحمه الله يفتح لنا باب نقاش سماع أبي صالح السمان من مالك الدار ، السمان مات سنة 101 ، وشهد الدار في عهد عثمان رضي الله عنه ، وقال أبو زرعة : (( أبو صالح ذكوان عن أبي بكر الصديق مرسل . وذكوان عن عمر ، مرسل ؛ وقال : أبو صالح السمان لم يلق أبا ذر )) [ المراسيل ص 57 ] ، ومالك الدار أدرك أبا بكر رضي الله عنه بل قيل له إدراك ، فهو من المخضرمين ، لا نعلم متى وفاة على وجه التحديد غير أن الذهبي رحمه الله ذكره ضمن الطبقة السابعة في تاريخ الأسماء الذي توفوا سنة سبعين ، والذي لم يذكر مصدره له المعلومة فهي اجتهاد منه قياس على أبي هريرة ، ومعاوية وعائشة رضي الله عنهم ، وهذا ليس بلازم ، وكذلك لا نعلم على وجه التحديد متى ولد أبو صالح السمان ، وعلى هذا يكون احتمال الانقطاع بين أبي صالح السمان ومالك الدار كبير جدا ، ولم نجد طريقا واحدا صرح به بالسماع .
العلة الثالثة في الإسناد ، وهي اختلاف فهم في مالك الدار نفسه فمنهم من يوثقه منهم من يجهله أي يجعله مجهول الحال ، فمن الذي وثقوه ابن حبان فقد ذكره في الثقات [ ص 384 / 1 ] ، ومن الذين وثقوه أيضا الخليلي كما في الإرشاد قال : (( تابعي قديم متفق عليه اثنى عليه التابعون )) [ ص 313 / 1 ] ، وكذلك من الذين وثقوه ابن سعد قال : (( وكان معروفا )) [ ص 12 / 5 ] .
قلت : فأما توثيق ابن حبان فحاله معروف عند علماء الجرح والتعديل فإنهم لا يعتدون به لمنهجه في توثيق المجاهيل فذكره لمالك الدار في كتاب الثقات أمرة عادي لأنه يوافق اصطلاحه للثقة ، فتوثيق ابن حبان لا يترقي حاله من جهالة الحال إلى الوثاقة .
أما عبارة الخليلي ( متفق عليه ) الذي يظهر لي أنها توثيق لمالك الدار ، لأنه أطلقها على معن بن عيسى القزاز ، وهو ثقة ثبت ، ولكن المتقدمون لم يوثقوه كأبي حاتم الرازي .
وأما ابن سعد لا يعتد بتوثيقه فقد قال الحافظ ابن حجر في فق مقدمة فتح الباري في ترجمة نافع بن عمر الجمحي : (( احتج به الأئمة وقد قدمنا أن تضعيف بن سعد فيه نظر لاعتماده على الواقدي )) [ 447 / 1 ] وإن كانت عبارته ليس من اصطلاحات الجرح والتعديل .
وعلى التسليم بالاحتجاج بأقوال ابن سعد فهذه العبارة لا يستفاد منها جرحا أو تعديلا حيث أطلاقها على صلة بن سليمان [ ص 315 / 7 ] كما أطلقها على مالك الدار ، وأعني بالاطلاع إفرادها دون قوله قليل الحديث أو له أحاديث ؛ وصلة هذا متهم بالكذاب ، قال يحيى بن معين : (( كان ببغداد وكان يكذب )) وقال أبو حاتم : (( متروك الحديث أحاديثه عن أشعث منكرة )) [ الجرح والتعديل ص 447 / 4 ] ، وقال البخاري : (( ليس بذلك القوي )) [ التاريخ الكبير ص 322 / 4 ] ، وقال النسائي : (( متروك الحديث )) [ الضعفاء والمتروكين ص 57 ].
وأطلقها أيضا على سرور بن المغيرة [ ص 315 / 7 ] ، وسرور متكلم فيه ، تكلم في الأزدي كما قال الذهبي في ميزان الاعتدال [ ص 172 / 3 ] ، ووثقه ابن حبان فقال : (( وكان متقنا على قلة روايته )) [ مشاهير علماء الأمصار ص 177 ] .
وأطلقها على أبي لقمان الحضري [ ص 463 / 7 ]، وهو ممن أدركوا أبا هريرة رضي الله عنه ، وذكره ابن حبان في جملة الثقات ، وقال معاوية بن صالح : (( مجهول )) [ ميزان الاعتدال ص 417 / 7 ] . فمن خلال تلك النقول لا نستطيع أن حدد قصد ابن سعد بعبارته تلك هل يقصد تعديلا أو تجريحا أم يكون معروفا بحسب حاله .
فأما الذين لم يعرفوا مالك الدار فهم ابن أبي حاتم ، والمنذري والهيثمي ، وقال عنه الألباني مجهول الحال . فمالك الدار مختلف فيه بين موثق وبين مجهل لحاله.
العلة الرابعة مر أن البخاري أخرج الأثر في التاريخ الكبير فقال : (( مالك بن عياض الدار أن عمر قال في قحط يا رب لا آلو إلا ما عجزت عنه قاله علي عن محمد بن خازم عن أبي صالح عن مالك الدار )) [ ص 304 / 7 ] ، وقد سقط من الطبعة الأعمش ، ولكن أثبتها ابن عساكر فقال : (( .. البخاري قال مالك بن عياض الدار أن عمر قال في قحط يا رب لا آلوا إلا ما عجزت عنه قاله علي يعني ابن المديني عن محمد بن خازم عن الأعمش عن أبي صالح عن مالك الدار )) [ ص 492 – 493 / 56 ] .
والراوي لهذا الأثر مختصرا هو علي بن المديني ، والذين رووه مطولا أبو خيثمة زهير بن حرب ، عبد الله بن محمد أبو بكر بن أبي شيبة ، ويحيى بن يحيى ، وهذا مخالفة تطعن بالأثر فكل هؤلاء ثقات فيحيى بن يحيى ثقة ثبت إمام ، ابن أبي شيبة ثقة حافظ صاحب تصانيف ، زهير بن حرب ثقة ثبت ، وأما ابن المديني قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب: ثقة ثبت إمام أعلم أهل عصره بالحديث وعلله ، حتى قال البخاري : ما استصغرت نفسي إلا عند علي بن المديني .
فهذا أعلم أهل عصر بعلل الحديث رواه مختصرا ، والظاهر أنه رأى بالمطول علل فلذلك تنكب عنه ، والله تعالى أعلم .
أما متن الحديث فهو منكر جدا يخالف ما جاءت به السنة النبوية المطهرة فالأصل عند القحط أن يستقوا .
ثم أن في هذا المتن طعن في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة ، فكيف هم يجهلون سنة الاستسقاء في حال القحط حتى يأتي ذلك الرجل المبهم فيذهب لقبر البني صلى الله عليه وسلم ليطلب منه أن يستسقي للأمة ؟! فسنة الاستسقاء لم تكن خافية على عمر رضي الله عنه فكيف تخفى عليه وهو القائل : (( اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا )) [ صحيح البخاري ص 1360 / 3 ] ، وكيف يجهل الصحابة سنة الاستسقاء وقد كان يخرج بهم النبي صلى الله عليه وسلم المصلى ليستسقي ، فعن عباد بن تميم عن عمه قال : (( خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى يستسقي واستقبل القبلة فصلى ركعتين وقلب رداءه )) ، فهذه السنة في القحط ، لا الذهاب إلى قبره صلى الله عليه وسلم وطلب الاستسقاء منه ثم انتظار منام كي يستسقوا ، فالقابل لهذا المتن لسان حاله يقول هذا الرجل أعلم وأحرص على المسلمين من خليفتهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكذلك أصحابه كعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
من نكارة المتن أيضا ذهاب الرجل المبهم إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقبره صلى الله عليه وسلم كان في حجرة عائشة رضي الله عنها قبل أن يدخله يزيد بن الوليد في المسجد ، فكيف خلص إلى القبر ؟!
وكذلك ليس في هذا الأثر ما يدل على أن عمر بن الخطاب علم بفعل هذا الرجل المبهم فأقره على ما فعل حيث أن عمر لا يأتيه الوحي إذا فعل أحد المسلمين ما يخالف الشرع حتى نقول سكوته إقرار كما هو الحال مع السنة النبوية.
والرجل المبهم لا يُعلم هل هو صحابي أم تابعي حتى نقول أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقينا فإذا كان صحابيا نقول نعم رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم إذا كان تابعيا لا نستطيع أن نجزم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد يأتيه الشيطان ويدعي أنه الرسول صلى الله عليه وسلم والخبر الذي صحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان لا يتمثل به ، وليس لا يدعو أنه الرسول فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي )) [ صحيح البخاري ص 1775 / 4 ] .
نعم قال الحافظ ابن حجر : (( روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة )) [ فتح الباري ص 496 / 2 ] قلت : وسيف هذا هو ابن عمر التميمي الضبي أحد الضعفاء المتروكين كما نص الحافظ ابن حجر في التقريب قال : (( ضعيف الحديث عمدة بالتاريخ ))[ ص 202 ] وقال ابن معين : (( ضعيف الحديث )) ، وقال أبو حاتم : (( متروك يشبه حديثه حديث الواقدي ))[ الجرح والتعديل ص 268 / 2 ] ، وقال النسائي : (( ضعيف ))[ الضعفاء والمتروكين ص 50 ] ، وقال ابن عدي : (( ولسيف بن عمر أحاديث غير ما ذكرت وبعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق )) [ الكامل ص 435 / 3 ] ، وقال الذهبي : (( له تواليف متروك باتفاق )) [ المغني في الضعفاء ص 292 / 1 ] ، وبعد كل هذه النقول كيف نقبل روايته ؟!
ومن نكارة هذا المتن أيضا مخالفة ما هو معروف عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان يسمع بعض الأحاديث من بعض الصحابة فلا يقبل منهم إلا بشاهد لا تكذيبا لهم بل زيادة بالتحري قال البخاري : حدثنا محمد بن سلام أخبرنا مخلد بن يزيد أخبرنا بن جريج قال : أخبرني عطاء عن عبيد الله بن عمير أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يؤذن له وكأنه كان مشغولا فرجع أبو موسى ففرغ عمر فقال : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس ائذنوا له قيل : قد رجع ، فدعاه فقال : كنا نؤمر بذلك فقال : تأتيني على ذلك بالبينة فانطلق إلى مجلس الأنصار فسألهم فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبو سعيد الخدري فذهب بأبي سعيد الخدري فقال عمر : أخفي هذا علي من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق يعني الخروج إلى تجارة [ ح 1956 ] .
فهذا ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فإذا كان يتحرى هكذا ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقظان يعي ما يقال له ، فكيف يقبل العمل برؤيا منام ومن مجهول ، وهو قائل : (( وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله )) [ صحيح البخاري ح 5345 ] .
وللشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ تعليق على هذا الأثر قال : (( والجواب أن يقال : هذه الحكاية على تسليم صحتها ليس فيها دليل شرعي يجب المصير إليه عند أهل العلم والإيمان ، فقد ذكر العلماء الأدلة الشرعية وحصروها وليس أحد منهم استدل على الأحكام برؤيا آحاد الأمة لا سيما إذا تجردت عما يعضدها من الكتاب والسنة والإجماع أو القياس . وهذا الرجل الذي رآها أبهمه من روى هذه الواقعة ولم يعينه إلا سيف ابن عمر على ما زعمه هذا الرجل .
وقد تقدم الكلام في سيف ؛ وأنه ضعيف لا يحتج به ، ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم لا تدل على استحسان فعل من اشتكى إليه القحط ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل إني شفعت لهم في السقيا ، أو طلبتها من الله لهم ، أو أجبت هذا المشتكي . وإنما أخبر أنهم يسقون , وهذا لا يفيد إقرار هذا الفعل ولا الرضى به . ولا عن فاعله . وهو في حياته صلى الله عليه وسلم رما أعطى الرجل المسألة فيخرج بها يتأبطها ناراً . وقد يجري لمن يدعو الصالحين ومن هو دون الأنبياء كثير من هذا النوع . كما ذكره شيخ الإسلام وغيره ، ولكنهم قرروا أن هذا لا يدل على الإباحة ولا على الإجابة بهذا السبب . بل وقد لا يشعر المسئول بشيء من ذلك . فإذا كان هذا يقع والمسئول لا شعور لديه ، ولا قدرة على الاستجابة فالاحتجاج به خروج عن الحجج الشرعية التي يرجع إليها أهل العلم والإيمان .
ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم وخطابه بمثل هذا لا يدل على حسن حال الرائي وتصويب فعله . هذا لو ثبتت هذه الرؤيا بوجه صحيح شرعي فكيف ودلائل الوضع تلوح عليها ؟ وقد يراه بعض الفساق والكفار ورؤيته نذارة للمجرمين وبشارة للمؤمنين ؛ وكون عمر بكي ولم ينكر هذه الرؤيا فليس هذا من الأدلة على أنه يشتكي إلى الرسول ، ولم يقل الرائي لعمر : أني ذهبت واشتكيت القحط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولم ينقله أحد . والنصارى والكفار يتوجهون إلى من عبدوه مع الله ويسألونه المطالب ، وكشف الشدائد ومع ذلك قد تحصل إجابتهم لما لله في ذلك من الحكمة والفتنة . وقد قال تعالى { كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك } وقد استجيب لبلعام بن باعورا في قوم موسى . والحجة الصريحة الواضحة ما فعله عمر بن الخطاب وأقره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليه ، كما في الصحيحين وغيرهما " أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال : اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نستسقي بنبيك فتسقينا ، وإنا نستسقي بعم نبيك فاسقنا ، قم يا عباس فادع الله فدعا العباس فسقوا " هذا قد أجمع عليه الصحابة وأقروه ، ولم يقل أحد منهم استق برسول الله ، أو ليس لك العدول عنه ، بل هم أفقه من ذلك وأعلم بدين الله . ثم لو كان حقا كيف يتركه الجم الغفير ويعدلون عنه ، مع أنه هدى وصواب ؛ وهذا لا يكاد يقع ممن هو دونهم رضي الله عنهم ، فكيف بهم رضي الله عنه ؟ ومن ترك هذه النصوص والواضحات الصريحة وعدل عنها إلى رؤيا منامية وحكايات عمن لا يحتج به في المسائل الإيمانية فهو ممن وصف الله تعالى بقوله { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتهم الذي يتبعون المتشابه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " )) [ مصباح الظلام ص 302 – 305 ] .
وبعد هذا البحث نخلص أن هذا الأثر لا يصح سندا ومتنا ، وأقل ما يقال في هذا الأثر أنه متكلم في إسناده ومتنه ، فكيف نأخذ ديننا من مثل هذه الحكايات ؟!
هذا والله تعالى أعلا وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
=============
أبو عثمان
المصدر التصوف العالم المجهول