شاهد أو مشهد مثير:
تأمل هذا المشهد الذي لا يمكن أن يخطر ببال أحد، إلا في أفلام الخيال -ربما- والذي يمثل نموذجاً صارخاً للتعبير عن هذه العقدة لدى الفارسي أو المتشيع بتشيعه: عنجهية ما بعدها عنجهية، واستكبار فارغ لا ينم إلا عن مرض خبيث متأصل في نفسية مريضة لا أمل في شفائها! لشخص مجرد من كل قوة في بلد غريب عنه يعامل وزيراً في بلده جاءه مبلغاً رسالة من رئيس دولته، يعامله بهذه الطريقة:
(كان الشاعر والأديب الذي تقلد منصب وزير الإعلام والثقافة، شفيق الكمالي، قد كلف بإبلاغ خميني برسالة صدام التي فحواها أن استمرار بقاء آية الله في النجف من شأنه أن يصبح خطراً على أمن العراق ومصلحته القومية، وأنه بالنظر إلى الحالة غير المستقرة والمتوترة في إيران، وحفاظاً على العلاقة بين البلدين عليه أن يرحل.
دخل شفيق الكمالي ومعه وفد كبير شقة الخميني. وقبل أن يسمح لهم بالدخول على الخميني ظهر سكرتيره الخاص وأخبرهم أن آية الله الخميني لا يرغب في مصافحة أحد، وأن عليهم أن يكتفوا بتحية الإسلام المعروفة (السلام عليكم). وعندما دخلوا الحجرة التي يستقبل فيها الخميني ضيوفه، كان الخميني يجلس مع المترجم على الأرض. قال الكمالي: (السلام عليكم)، لكن آية الله رد السلام ببرود ولم ينهض أيضاً، فكان على أعضاء الوفد العراقي أن يجلسوا هم أيضاً على الأرض، قبل أن يصرح وزير الإعلام والثقافة برغبة صدام.
كان الخميني يحملق في سقف الغرفة أو في مترجمه أو سكرتيره بشكل ملفت للانتباه، فلم يكن لينعم على وزير الإعلام أو أي من المبعوثين من بغداد بنظرة واحدة. كان يجيب على الأسئلة بنعم أو بلا، أو يترك مهمة الإجابة عنها لسكرتيره الخاص. ولم ينظر الخميني إلى الرسل القادمين من بغداد إلا بعد أن انتهى الحديث الذي لم يدع فيه الكمالي مجالاً للشك أنه لا يوجد حل آخر سوى أن يغادر الخميني العراق في أقرب وقت ممكن.
(كان ينظر إلينا الواحد تلو الآخر دون أن ينبس بكلمة، كان له حضور قوي. كنت أشعر كما لو كنت أقف في مهب محرك نفاث عندما يصوب عينيه نحوي. بدأت أرتعد)، ذلك ما رواه لي الكمالي فيما بعد مضيفاً: (كان لدينا جميعاً نفس الشعور عندما خرجنا من عنده).
يقول مدير صحة محافظة البصرة آنذاك، نزار شاهبندر، الذي كان عضواً في لجنة مهمتها الإشراف على كل شيء يخص فترة إقامة الخميني والاعتناء به أثناء المرور من هناك والتوجه إلى الكويت: (كان الخميني غاضباً وثائراً بشكل جنوني)([5]).
غاضباً من أي؟ وثائراً على من؟ أيها الحاقد المعقد! أكثر من عشر سنين وأنت تتنعم بخيرات العراق، وتتقلب في نعمه. من أنت؟ ومن أين أتتك كل هذه الكبرياء الجنونية؟ وهذا الحقد الذي يأكل كبدك كالجرب بحيث لا تتحمل أن تنظر في وجوه قوم طالما أحسنوا إليك! ما سوء الأدب هذا؟! وزير وحاشية تتجشم عناء المجيء إليك من بغداد، احتراماً لشيبتك وصفتك طبقاً لأخلاق العرب، من أجل أن يبلغوك أمراً كان يمكنهم بكل بساطة أن يستدعوك إلى أقرب مركز شرطة ليبلغوك إياه، أو يرسلوا إليك شرطياً يقوم بالمهمة، أو يشد وثاقك ليرميك خلف الحدود، أو يسلمك إلى الشاه يفعل بك ما يشاء، وينهي قصتك. لكنهم لم يفعلوا بك ذلك كله -وهم قادرون لو أرادوا- واعتبروك ضيفاً، أو (دخيلاً) يلزمهم الخلق العربي أن يعاملوه معاملة خاصة. وفوق ذلك أولوك -بلا معنى- احتراماً لا تستحقه، وتأبى عليك نفسيتك المعقدة أن تفهمه كما يفهمه الأسوياء؛ فأرسلوا إليك وزيراً! فتستكثر على وزير احترمك ووقرك وقطع إليك كل تلك المسافة، أن تستقبله وتصافحه وتكرمه كما يوجب عليك الدين الذي تنتسب إليه، أو الخلق الإنساني على الأقل؟! ولكنها العقد الفارسية: عقدة السيد وعقدة الصفاقة وعقدة اللؤم ونكران الجميل و.. و…، ليس الذنب ذنبك، إنما ذنب أولئك الذين احترموك. ألم يكن فيهم رجل رشيد يقوم إليك في تلك اللحظة ليمرغ أنفك بالحذاء، ويخرج تلك الشمخرة من ذلك الأنف الخبيث؟ ثم يرميك على حدود إيران؟ عفواً أيها (السيد)! المشكلة فينا، وليست فيكم. ولعل الكثيرين لا يعلمون أنك من أرباب السوابق الذين سجلت في حقهم دعوى في شرطة النجف أيام كنت طالباً في الحوزة، بالجرم الذي لا يكاد يسلم منه معمم فارسي! من هنا خرجت تلك العنجهية، وتلك الكبرياء الفارسية الفارغة. من هنا شحنت بذلك الحقد وتلبست بتلك الغطرسة! هل عرفت نفسك؟!
وشهد شاهد منهم على مثله:
يقول شيعي محترق، لكنه عليم بحال الفرس، خبير بهم لطول معاشرته إياهم هو محمد طه الكرمي: (والفرس بطبيعتهم أنانيون يتطلبون مساقط العنوان، ومهابط الفخفخة، بكل ما يتمكنون، وبأي طريق يحصل لهم ذلك. ولذا كثرت فيهم المذاهب، وتفتقت شعب الدين؛ لأن هذه الاختلافات من مظان الترقي وشهرة الاسم. ففيهم كثرة الصوفية والأقطاب. وفيهم الشيخية، وفيهم البابية والبهائية. وفيهم المجوسية لحالهم الحاضر. وفيهم الكسروية واللامبدئية بصورة فاشية، إلى غير ذلك من مشارب ومذاهب... وزعيم الشيخية، الذي منهم وعندهم، آية في التجبر والتنفس والتعنون والتنعم والثروة. وهكذا نوع طبقاتهم الشاخصين، إن باسم الدنيا، وإن باسم الدين. ولم يحدثنا التاريخ، فيما سبق لنا من سلف، أنهم يستأجرون المأمومين وطلبة العلم لصلاة الجماعة وحضور حلقة الدرس بدراهم ودنانير كما أوقفنا عليه في حاضره هذا، ومن الفرس فقط ومن تأثر بروحياتهم فحسب.
وهم أناس متحركون يعرفون كيف يسلكون في تصيد الدنيا والعنوان. فيشتري من يريد منهم الاسم والعنوان، وأنه صار مندوباً في المجلس النيابي في الدورة السادسة عشرة مثلاً الرأي الواحد بمئات الدراهم، بل بآلافها، وإن كان لا يستفيد من الكرسي سوى الاسم فقط! ويهاجر الذي لم يجد منهم في داره حيلة ومناصاً إلى مناطق تغلب عليها البساطة حتى يستطيع التأثير عليها. وإذا به (آقا خان المحلاتي) دب لا يعقل سوى الأكل والشرب والبطن المنتفخ، واكتناز الأموال، واحتجاز الغواني في قصره المشيد في الهند)([6]).
ويقول أيضاً: (فالرجل الفارسي إذا حصل في الجامعة أقل عنوان من تمول أو رياسة أو علم، نفخ صدره بما لا حد معه مبدئياً كان أم مادياً. حتى إن العلماء الرامين إلى التدين وترويج الشريعة منهم إذا خولهم الزمان أقل فرصة من فرصه فسادوا واشتهروا لا تحملهم الأرض يمشون عليها من تبخترهم. دع عنك ذواتهم؛ فقد تكون لها قيمة ذاتية، ولكن هلمّ الخطب في خدمهم! فتراه بعد أن كان حمالاً يستأجره أقل الناس لحمل أثقاله بدراهم بخسة، فوفقه الزمان لخدمة هذا الرجل لا يعير التفاتاً لأي أحد، وبالأخص إذا كان من الروحانيين الذين يتقاضون من مخدومه الخبز والدراهم)([7]).
المتسيد لا يحترم إلا من يذله:
والسيد لا يلتفت إلى إحسان العبد تجاهه؛ لاعتقاده أن ذلك حق من حقوقه. وكل ما يقدمه (العبد) تجاه (السيد) يعتبر خدمة واجبة عليه لا يستحق عليها الشكر. ولا يلتفت السيد إلى رأي العبد كذلك، ولا يسمع لكلامه بل قد لا يسمح له بالكلام في حضرته أصلاً لأنه عبد.
إن عقدة (السيد) عند العجمي والمستعجم تبطل مفعول أي إحسان تقدمه إليه من أجل تقريبه وكسبه. وتجعل آذانه في صمم عن سماع كلامك ورأيك ما لم يكن كلام سيد يمتاز بالقوة والجرأة والاستعلاء اللذين يمتاز به كلام السادة مع العبيد. إن هذه العقدة تفرض على من يتعامل مع المصابين بها أحد خيارين: فإما أن يتعامل معهم كـ(سيد)، وإما أن يعاملوه كعبد! وليس من خيار ثالث.
إن اللين واللطف وجميع أساليب التقريب ليست أكثر من (مغذ) أو حقنة (فيتامينات) تغذي هذه العقدة عند (الفارسي) وتقويها! فيبتعد أكثر عن (اللينين) الوادعين. ويتصامم عن سماع كلامهم ويحتقرهم ولا يعاملهم باحترام؛ لأن (السيد) لا يحترم إلا سيداً مثله، ولا يعتبر إحسانه إليه. بل يفسر كل مجاملة أو تعامل لطيف على أنه ضعف أو خداع! فإذا أردت منه أن يحترمك ويسمع لكلامك فكن سيداً مثله في خطابك وموقفك وكلمه بلغة السيد ولهجته. وإن علوت أكثر وأشعرته بأنك فوقه وأنه دونك فهذا أجدى. وإلا فإن الطريق الآخر مسدود.
والتاريخ -وكذلك الواقع- خير شاهد.
ما ضعف العراق في التاريخ مرة إلا وغزاه الفرس:
لقد ثبت تاريخياً أن (الفرس) لا يحترمون إلا القوي، ولا يعترفون إلا به ولا ينصاعون إلا للقوة ولا يفهمون سوى خطابها ولغتها. وما من مرة تولى فيها الحكم في العراق حاكم ضعيف إلا وتحرك العجم باتجاهه يغزونه ويعتدون عليه. وما من حاكم قوي إلا وله معهم موقعة يلقنهم فيها أحكم الدروس وأبلغها. من أوتوحيكال وسرجون إلى حمورابي ونبو خذ نصر إلى آشور بانيبال وسميراميس إلى أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وصولاً إلى صدام حسين. عندها قد يسمعون له وهو يتكلم لهم عن (أسطورة) الجار وحقوقه أو الدين ولوازمه وآدابه. كاليهود تماماً! أخذ الله عليهم الميثاق وهم تحت الطور الذي يكاد ينقض عليهم، ثم ما إن ذهب عنهم الخوف حتى تولوا فكانوا من المعرضين! وعلى هذا الأساس تعامل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنجح أيما نجاح.
ولقد أثبتت الوقائع، والأحداث والواقع، أن جميع محاولات التقريب لم تجد مـع الشيعة شيئاً، وأن الأفكار التقريبية والدعوات اللينة أو (الهادئة) وكلمات المدح والتزلف تنقلب عندهم -لفساد مزاجهم- إلى سلاح متفجر يحاربوننا به ويفجرونه في وجوهنا كل حين. إن هذا لا يزيدهم إلا عتواً وخبالاً، ولا نكسب منه إلا مزيداً من الأدلة أو الأسلحة التي تستعمل ضدنا بوقاحة وصلف!
هل أجدت معهم هذه المقولات الخانعة: [[ لولا علي لهلك عمر ]] [[ لولا السنتان لهلك النعمان ]] [[ إن جعفر الصادق هو إمام المذاهب ]] .. إلخ؟!
على العكس! لقد استعملوها بالمقلوب واعتبروها أدلة على جهل عمر وأبي حنيفة، وأن الأصل هو التشيع وما عداه ففرع وعالة.
إن السيد -أيها السادة!- لا يحترم إلا سيداً مثله أو يزيد عليه.