قال ابن القيم رحمه الله عند حديثه عن أنواع الحزن:
الحزن الثالث : حزن بعثته وحشة التفرق . وهو تفرق الهم والقلب عن الله عز وجل . ولهذا التفرق حزن ممض على فوات جمعية القلب على الله ولذاتها ونعيمها ، فلو فرضت لذات أهل الدنيا بأجمعها حاصلة لرجل لم يكن لها نسبة إلى لذة جمعية قلبه على الله ، وفرحه به ، وأنسه بقربه ، وشوقه إلى لقائه . وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه . فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك . ولله در القائل :
أيا صاحبي أما ترى نارهم فقال : تريني ما لا أرى
سقاك الغرام ولم يسقني فأبصرت ما لم أكن مبصرا
فلو لم يكن في التفرق المذكور إلا ألم الوحشة ، ونكد التشتت ، وغبار الشعث لكفى به عقوبة ، فكيف ؟ وأقل عقوبته : أن يبتلى بصحبة المنقطعين ومعاشرتهم وخدمتهم . فتصير أوقاته - التي هي مادة حياته - ولا قيمة لها ، مستغرقة في قضاء حوائجهم ، ونيل أغراضهم . وهذه عقوبة قلب ذاق حلاوة الإقبال على الله والجمعية عليه والأنس به . ثم آثر على ذلك سواه . ورضي بطريقة بني جنسه ، وما هم عليه . ومن له أدنى حياة في قلبه ونور فإنه يستغيث قلبه من وحشة هذا التفرق . كما تستغيث الحامل عند ولادتها .
ففي القلب شعث ، لا يلمه إلا الإقبال على الله . وفيه وحشة ، لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته .
وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته .
وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه ، والفرار منه إليه .
وفيه نيران حسرات : لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه .
وفيه طلب شديد : لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه .
وفيه فاقة : لا يسدها إلا محبته ، والإنابة إليه ، ودوام ذكره ، وصدق الإخلاص له . ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا .
فالتفرق يوقع وحشة الحجاب . وألمه أشد من ألم العذاب . قال الله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم . فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم .
📚 مدارج السالكين ص155-156