جريمة الغلو في التكفير والاستهانة بالدماء
لئن حارَ كثيرٌ من الناس في معرفة السببِ الباعثِ على ما يرَون من انحرافِ بعضِ الخلقِ عن الجادَّة، وحيدَتهم عن صراطِ الله المُستقيم إلى اتباع السُّبُل التي تفرَّقَت بهم عن سبيلِه، وحملَتهم على مخالفة الهُدى البيِّن، والحقِّ الصُّراح المُتبدِّي في منهَج أهل السنة والجماعة، وطريق سلَف الأمة أهل القرون المُفضَّلة التي شهِد لها رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – بالخيريَّة في الحديث الذي أخرجه الشيخان في “صحيحيهما” عن عبد الله بن مسعودٍ – رضي الله عنه -، أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلُونَهم، ثم الذين يلُونَهم .. الحديث».
فإن الذين أوتوا العلمَ والإيمان من مُحقِّقي العلماء والراسِخين في العلم منهم، يقِفُون عند هذه القضيَّة موقِفَ البصيرِ بها، المُهتدِي إلى حقيقتها، العالِم بوجهِ الصوابِ فيها، الدالِّ على أسبابها والبواعِثِ عليها.
فكان أن بيَّنوا لنا البيانَ الشافي الذي يشفِي كلَّ علَّة، ويقطعُ كلَّ عُذر، ويدفعُ كلَّ شُبهَة.
وحاصِلُه – يا عباد الله -: أن أقوَى أسباب الانحِراف الذي أورَثَ أهلَه خطيئتَين عظيمتَين، هما:
الأولى:الجُرأةُ على الدم الحرام، والاستهانةُ به، وقلَّةُ أو عدمُ الاكتِراث بما وردَ فيه من الوعيد عن الله تعالى وعن رسولِه – صلى الله عليه وسلم -.
والثانية: هي الولَعُ بتكفيرِ المسلمين، والولوغُ في ذلك الإثمِ المُبين، والمُسارعةُ إليه بغير بيِّنةٍ ولا فقهٍ ولا خشيةٍ من الله، ولا مُراقبةٍ له، ولا نزولٍ عند حُكمه، ولا تركٍ لأهواء النفوسِ وشهَواتها لمُراده – سبحانه -.
إن أقوَى وأظهرَ أسباب هذا الانحِراف في قولِ أهل التحقيقِ من العلماء: مُشاقَّةُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، واتباعُ غير سبيلِ المؤمنين في فهمِ كتابِ الله تعالى وسنَّة رسولِه – صلى الله عليه وسلم -. وذلك هو الذي نهى عنه وحذَّر منه، وتوعَّد مُجترِحَه بأن يُصلِيَه نارَ جهنَّم، فقال -سبحانه-:وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[النساء: 115].
وهو بيانٌ ربَّانيٌّ ومنشورٌ إلهيٌّ، يُنادِي بأن من خالفَ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -، وعاداه وحادَّه من بعد ما عرَف أنه رسولُ الله حقًّا، وأن ما جاء به هو الهُدى من عند الله.
ثم هو مع ذلك خارِجٌ على جماعة المسلمين، مُتَّبِعٌ غيرَ سبيلِهم، فهو الشقيُّ الخاسِرُ خُسرانًا مُبينًا؛ إذ كان عاقبته في الدنيا أن يخذلَه الله ويدَعَه لكفره وضلالِه، احتِقارًا له، واستِصغارًا لشأنِه، وكان عاقبته في الآخرة أن يصلَى نارَ جهنَّم التي جعلَها الله مصيرًا له، وساءَت مصيرًا.
والذي يستوقِفُ اللَّبيبَ ويسترعِي انتِباهَه – يا عباد الله – هو – كما يقولُ أهلُ التحقيق من العلماء -: أن الله لم يقتصِر فيها – في هذه الآية – على ذكرِ مُشاقَّة الرسولِ – صلواتُ الله وسلامُه عليه -؛ بل قرَنَ إليها اتباعَ غير سبيلِ المؤمنين؛ ليدلَّ بذلك على أن اتباعَ سبيلِ المؤمنين أو ضدَّه، وهو عدمُ اتباع سبيلِهم أمرٌ قد بلَغَ الغايةَ من الأهمية إيجابًا وسلبًا.
ومُؤدَّاه – يا عباد الله – أن من اتَّبعَ سبيلَ المؤمنين فهو الناجِي عند الله يوم القيامة.
وعلى العكسِ منه: من خالفَ سبيلَ المؤمنين، فإن له نارَ جهنَّم يصلاها مذمومًا مدحورًا.
إن هذا هو منشؤُ ضلال طوائِف كثيرةٍ جدًّا في ماضِي الأيام وحاضِرِها، وفي قديمِ الدهرِ وحديثِه؛ وذلك أنهم لم يلتزِمُوا باتباع سبيلِ المؤمنين في فهمِ الكتابِ والسنَّة، وإنما ركِبُوا عقولَهم، واتَّبَعوا أهواءَهم، وزُيِّنَت لهم آراؤُهم، وأعجبَتْهم أنفسُهم، فأوبقَهم ذلك في أدهَى المصائِب، وأدَّى بهم إلى أخطر العواقِب.
فكان هذا العقابُ الأليمُ الذي تضمَّنَته هذه الآيةُ الكريمةُ جزاءً وفاقًا على خروجهم على ما كان عليه سلَفُ الأمة وخيارُها.
وفي الطَّليعة منهم: صحابةُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -، الذين عدَّلهم القرآن الحكيم وزكَّاهم، وشهِدَ لهم نبيُّ الله – صلى الله عليه وسلم – بالخيريَّة والأفضليَّة والمنزلةِ الرفيعةِ، التي لا مطمعَ لأحدٍ بعدَهم في أن يبلُغَها؛ فقال – صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبُّوا أصحابِي، فوالذي نفسي بيدِه؛ لو أن أحدَكم أنفقَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا لم يبلُغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه»؛ أخرجه الشيخان في “صحيحيهما”،وأبو داود في “سننه”، والترمذي في “جامعه” من حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ – رضي الله عنه -.
وأما الأحاديثُ الدالَّةُ على ما دلَّت عليه هذه الآيةُ الكريمة؛ فمنها: حديثُ عوف بن مالكٍ – رضي الله عنه -، أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «افترَقَت اليهودُ على إحدى وسبعين فرقة، وافترَقَت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، والذي نفسُ محمدٍ بيدِه؛ لتفترِقَنَّ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة». قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «الجماعة»؛ أخرجه ابن ماجه في “سننه” بإسنادٍ صحيحٍ.
ومنها: حديثُ عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما -، .. فذكر الحديثَ بنحوه، وفيه: قال – عليه الصلاة والسلام – لما سُئِل عن الفرقة الناجية، قال: «ما أنا عليه وأصحابي»؛ وإسنادُه حسنٌ بمجموع شواهِده.
فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكتَفِ في هذا الحديث بقوله: «ما أنا عليه»، ولكنه – عليه الصلاة والسلام – وهو الرؤوفُ الرحيمُ بالمؤمنين، كما وصفَه به ربُّه – عز وجل – أوضحَ لهم أن علامةَ الفرقة الناجية: أن تكون على ما كان عليه الرسولُ – صلى الله عليه وسلم -، وعلى ما كان عليه أصحابُه من بعدِه.
وعليه؛ فإنه لا يجوزُ أن يُقتصَرَ في فهم الكتاب والسنة على تلك الوسائل والعلوم، التي اشترطَ العلماءُ العلمَ بها لمن صدَّى لبيان معاني الكتاب والسنة، مثل: معرفة اللغة والتمكُّن من أصولها وقواعدها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغير ذلك.
بل لا بُدَّ من الرجوع في كل ذلك إلى ما كان عليه أصحابُ النبي – صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم كانوا أخلصَ الأمة لله بعد نبيِّها – صلى الله عليه وسلم -، في العبادة، وأفقَهَ الخلق.
كانوا – رضي الله عنهم – أفقهَ الخلق في معاني الكتاب والسنَّة، وأعلمَ العباد بمعاني التنزيل.
وفي ذلك يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “للصحابة فهمٌ في القرآن يخفَى على أكثر المتأخرين، كما أن لهم معرفةً بأمورٍ من السنَّة وأحوال الرسولِ – صلى الله عليه وسلم -، لا يعرِفُها أكثرُ المتأخرين. فإنهم – أي الصحابة – رضي الله عنهم – شهِدُوا الرسولَ – صلى الله عليه وسلم – والتنزيل – يعني: القرآن -، وعايَنُوا الرسولَ – عليه الصلاة والسلام – أي: رأَوه عيانًا وعاصَرُوه -، وعرفُوا من أقواله وأفعاله ما يستدلُّون به على مُرادهم مما لم يعرِفه أكثرُ المتأخرين”. اهـ كلامُه.
وصدقَ – رحمه الله -؛ فما أكثر ما خفِيَ على أكثر المتأخرين من معانِي القرآن والسنة، بشُؤم الإعراض عن هذا الفهم الصائِب والمرجعيَّة المُؤصَّلة المُسدَّدة.
فاتقوا الله – عباد الله -، واعلَموا أنه لا مندُوحة عن اتباع سبيل المؤمنين في فهمِ الكتاب والسنة لمن أرادَ النجاة من الفتن التي أصابَت كلَّ من ركِبَ عقلَه، واتَّبعَ هواه، وخرجَ عن سبيلِ المؤمنين من الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسانٍ من أهل القرون المُفضَّلة، والأزمِنةِ المُقدَّمة في الدينِ والإيمانِ والإحسان.
قال بعضُ أهل العلم بالحديث: “إن حديثَ الوصيَّة بسُنَّة الخلفاء الراشِدين المهديين”.
وهو حديثُ العِرباض بن سارِية – رضي الله عنه -، أنه قال: وعَظَنا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – موعِظةً وجِلَت منها القلوب،وذرَفَت منها العيون، فقلنا: كأنها موعِظةُ مودِّع،فأوصِنا يا رسول الله. قال: «أُوصِيكم بالسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ، وإنه من يعِش منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإن كل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة»؛ أخرجه الإمام أحمد في “المسند”، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو حديثٌ صحيحٌ بمجموع طُرقه.
“هذا الحديثُ مُشابِهٌ كل المُشابَهة لحديث افتِراق الأمة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، والشاهدُ منه: أن النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – حضَّ أمَّتَه في أشخاصِ أصحابِه أن يتمسَّكُوا بسُنَّته، ثم لم يقتصِر – صلواتُ الله وسلامُه عليه – على ذلك؛ بل قال: «وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي».
فإذا أردنا أن نفهمَ عقيدتَنا، أو أن نفهمَ عباداتِنا، وأن نفهمَ أخلاقَنا وسُلوكَنا فلا بُدَّ لنا من أن نعودَ إلى سلَفنا الصالح، لفهم هذه الأمور التي يتحقَّقُ فيمن فهِمَها وعمِلَ بمُقتضاها أنه من الفرقة الناجِية.
ومن هنا؛ ضلَّت طوائِفُ قديمة وحديثة حين لم يلتفِتُوا وإلى حديثِ سُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، فكان أمرًا طبيعيًّا جدًّا أن ينحرِفُوا كما انحرَفَ من سبَقَهم عن كتابِ الله وسُنَّة رسولهِ – صلى الله عليه وسلم -، ومنهَج السلَف الصالِح، ومن هؤلاء: الخوارِجُ قديمًا وحديثًا”. اهـ كلامُه – يرحمه الله -.
واعلَموا أن السلامةَ من الفتن والشُّرور كافَّةً، ومن فتنةِ التكفير واستِباحةِ الدم الحرام خاصَّةً هي باتباع سبيلِ المؤمنين فقط في فهم معاني الكتاب والسُّنَّة، وبالحَذَر التامِّ من مُشاقَّة الرسولِ – صلواتُ الله وسلامُه عليه -، ومن اتباع غير سبيلِ المؤمنين.
إذ بهما – أي: بالمُشاقَّة وباتباع غير سبيلِ المؤمنين – تحصُلُ أخطر العواقِب، وتدهَى به أعظمُ المصائِب.
لفضيلة الشيخ الدكتور : أســـامـــه خــيـــاط