العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتديات العلمية > منتدى الحديث وعلومه

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
قديم 27-12-10, 11:13 PM   رقم المشاركة : 1
عيسى سالم
عضو







عيسى سالم غير متصل

عيسى سالم is on a distinguished road


Thumbs up أربعون حديثا في الخير يحثك على الاعمال الصالحة

المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ? [آل عمران: 102].
?يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا?
[النساء: 1].
?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن النبي ? قد جاء بشريعة كاملة شاملة، شملت جميع جوانب الحياة الخاصة والعامة، كما قال تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا? [المائدة: 3].
وقال تعالى: ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ?.
[الأنعام: 38].
فبلغ النبي ? الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فما مَنْ خير إلا ودل الأمة عليه، وما من شر إلا وحذرها منه.
وقد استخرت الله تعالى في جمع أربعين حديثا في الخيرية مشتملة على بعض الأبواب الفقهية من عبادات ومعاملات وأخلاق وأحكام؛ ليعم الانتفاع بها والعمل بما جاء فيها، اقتداء برسول الأمة محمد بن عبد الله -عليه أفضل الصلاة والسلام.
وكان منهجي في هذه الرسالة على النحو التالي:
1- اخترت عشرين حديثا في الخيرية, والتزمت أن تكون صحيحة ومعظمها في صحيح البخاري ومسلم، وقمت بشرح الأحاديث شرحا موجزا، وحرصت أن أربط الحديث بواقع الناس, وبما استجد في حياتهم أمور قدر المستطاع.
2- ثم اخترت عشرين حديثا أخرى في الخيرية ودونتها مع ذكر درجتها من الصحة، دون التعرض لشرحها؛ لوضوحها ولعدم الحاجة إلى شرحها.
واتبعت في تخريج الأحاديث ما يأتي:
أ- إن كان الحديث في الصحيحين اكتفيت بالعزو إليهما أو إلى أحدهما.
ب- إن كان الحديث في غير الصحيحين اعتمدت على كلام العلماء عليه، وعولت كثيرا على مؤلفات فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله.
ج- إن كان فيها حديث قد تكلم عليه بالضعف، فقد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ومع هذا فليس اعتمادي على مثل هذا الحديث اعتمادا كليا.
3- جعلت بين يدي الموضوع تمهيدا اشتمل على تفاضل العبادات وأقسام الناس نحو تفاضل العبادات، مبينا أن العبادات تتفاضل بتفاضل الأوقات والأزمنة.
وليس لي في هذه الرسالة من عمل سوى: الجمع، ثم الترتيب، ثم التعبير، ثم التلخيص؛ وهو أدنى مراتب التأليف.
ومع هذا ما كتبت شيئا إلا خائفا مَنْ الله، مستعينا به معتمدا عليه، فما كان حسنا فمن الله وبفضله، وما كان ضعيفا فمن النفس الأمارة بالسوء.
كما أسأل الله -عز وجل- أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفع به كل مَنْ يقرؤه أو يسمعه أن يبذل النصيحة لكتابه فإن الدين النصيحة، والمؤمن مرآة أخيه إذا رأي فيه عيبا أصلحه.
والله تعالى حسبي ونعم الوكيل.

تمهيد حول تفاضل العبادات
انقسم الناس في مفهوم أفضل العبادات وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص إلى أربعة أصناف، سوف أذكر هذه الأصناف باختصار مع عدم مناقشة هذه الآراء، مكتفيا بذكر الرأي الراجح( ):
الصنف الأول: أفضل العبادات وأنفعها عندهم: أشقها على النفس وأصعبها، لأنها أبعد عن الهوى، وهو حقيقة التعبد، والأجر عندهم على قدر المشقة.
وهؤلاء هم أهل المجاهدات والجور على النفس، واحتجوا بحديث لا أصل له: "أفضل الأعمال أحمزُها"( ).
الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد، والزهد في الدنيا والتقليل منها غاية الإمكان.
الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وأفضلها: ما كان فيه نفع متعد، فهو عندهم أفضل من ذي النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم أفضل. واحتجوا بقوله ? : «الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله»( ).
وقالوا: إن عمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفاع متعد إلى الغير، أن أحدهما مَنْ الآخر ولهذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب.
الصنف الرابع: وهو القول الراجح: إن أفضل العبادات: العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.
فأفضل العبادات وقت الجهد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد، وصلاة الليل، وصيام النهار, بل ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا: القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذلك في أداء الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من ورد، والاشتغال بإجابة المؤذن، وهكذا.......
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف الثلاثة أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به مَنْ العبادة وفارقه, يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته، فهو يعبد الله على وجه واحد.
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاه الله تعالى أينما كانت، فمداره عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى. فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره، فإن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العُباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم. فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيها من لذاتها وراحتها من العبادات. بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواء.
فهو كالغيث حيث وقع نفع، وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها. ومع هذا فهو يغضب إذا انتهكت محارم الله، وشديد على المخالفين لأوامر الله، فهو لله وبالله ومع الله.

القسم الأول
الحديث الأول:
"خيرية ركعتي الفجر"
عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي ? قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»( ).
هذا الحديث فيه دلالة على أفضلية ركعتي الفجر، وأنها خير من الدنيا وما فيها من أثاث ومتاع، ويدل أيضا على استحباب تعاهدهما وكراهية التفريط فيهما لا فيهما من الأجر العظيم.
-قوله: «ركعتا الفجر»، أي سنة الفجر وهي مشهورة بهذا الاسم، ولا يمكن أن تُحمل على الفرض.
-قوله: «خير من الدنيا»، أي خير من أن يُعطى تمام الدنيا في سبيل الله تعالى، أو هو على اعتقادهم أن في الدنيا خيرا، وإلا فذرة من الآخرة لا تساويها الدنيا وما فيها( ).
وقد استدل بهذا الحديث على أن ركعتي الفجر أفضل من الوتر وهو أحد قولي الشافعي. ووجه الدلالة أنه ? جعل ركعتي الفجر خيرا من الدنيا وما فيها، وجعل الوتر خيرا من حمر النعم، وحمر النعم جزء مما في الدنيا، ومن العلماء من ذهب إلى أن الوتر وركعتي الفجر سواء في الأفضلية( ).
ولم يكن النبي ? في النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر، كما جاء في الحديث: «لم يكن النبي ? على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر»( ).
وثبت أنه ? كان لا يتركهما حضرا ولا سفرا( ).
"خيرية صفوف الرجال والنساء في الصلاة"
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها»( ).
-قوله: «خير صفوف الرجال أولها» أي: أكثرها أجرا وهو الصف الأول، الذي تصلي الملائكة على من صلى فيه، فعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول»، قالوا: يا رسول الله وعلى الثاني؟ قال: «وعلى الثاني»( ).
والصف الأول الممدوح الذي قد وردت الأحاديث بفضله والحث عليه، هو الصف الذي يلي الإمام, سواء جاء صاحبه متقدما أو متأخرا, وسواء تخلله مقصورة ونحوها أم لا.
وقال بعض العلماء: الصف الأول هو المتصل من طرف المسجد إلى طرفه، لا يتخلله مقصورة ونحوها.
وقيل: الصف الأول عبارة عن مجيء المصلي إلى المسجد أولا، وإن صلى في الصف متأخرا.
ورجح النووي القول الأول، وقال في القولين الآخرين: (وهذان القولان غلط صريح) ( ).
-قوله: «وشرها آخرها» وإنما كان شرها لما فيه من ترك الفضيلة الحاصلة بالتقدم إلى الصف الأول( ).
-قوله: «وخير صفوف النساء آخرها» إنما كان خيرها لما في الوقوف فيه من البعد عن مخالطة الرجال، بخلاف الوقوف في الصف الأول من صفوفهن فإنه مظنة لتعلق القلب بهم المتسيب عن رؤيتهم وسماع كلامهم، ولهذا كان شرها.
قال النووي في شرح الحديث: (أما صفوف الرجال فهي على عمومها، فخيرها أولها أبدا وشرها آخرها أبدا، أما صفوف النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يصلين مع الرجال، وأما إذا صلين متميزات لا مع الرجال فهن كالرجال خير صفوفهن أولها وشرها آخرها. والمراد بشر الصفوف في الرجال والنساء أقلها ثوابا وفضلا وأبعدها من مطلوب الشرع، وخيرها بعكسه، وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن عن رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك) ( ).
ويؤخذ من هذا الحديث أن صلاة النساء صفوفا جائزة من غير فرق بين كونهن مع الرجال أو منفردات وحدهن( ).
"خيرية تسوية الصفوف في الصلاة"
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ?: «خياركم ألينكم مناكب في الصلاة»( ).
-قوله: «خياركم» أي: في الأخلاق والآداب( ).
-قوله: «ألينكم مناكب». معناه: إذا كان في الصف وأمره أحد بالاستواء ,أو بوضع يده على منكبيه, ينقاد ولا يتكبر، فالمعنى أسرع انقيادا( ).
قال الخطابي: (معنى لين المناكب لزوم السكينة في الصلاة والطمأنينة فيها لا يلتفت ولا يحاك بمنكبية منكب صاحبه. وقد يكون فيه وجه آخر وهو أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف؛ ليسد الخلل أو لضيق المكان، بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف وتتكاتف الجموع) ( ).
قال أبو داود: (ومعنى «لينوا بأيدي إخوانكم» إذا جاء رجل إلى الصف فذهب يدخل فيه فينبغي أن يلين له كل رجل منكبه حتى يدخل في الصف) ( ).
وكان النبي ? إذا قام إلى الصلاة يأمر من خلفه بتسوية الصفوف والاعتدال فيها، فعن أنس -رضي الله عنه- قال إن الرسول ? كان إذا قام إلى الصلاة أخذ يمينه ثم التفت فقال: «اعتدلوا، سووا صفوفكم، ثم أخذ بيساره فقال: اعتدلوا سووا صفوفكم»( ).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله ? قال: «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله، ومن قطع صفا قطعه الله»( ).
الحديث الرابع:
"خيرية الامتناع عن المرور بين يدي المصلي وسترته"
عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم، يسأله ماذا سمع من رسول الله ? في المار بين يدي المصلي؟ فقال أبو جهيم: قال رسول الله ? : «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه» قال أبو النضر: لا أدري، أقال أربعين يوما أو شهرا أو سنة( ).
هذا الحديث فيه النهي الأكيد والوعيد الشديد على من يمر بين يدي المصلي وسترته، وهذا عام في كل مصلٍ فرضا أو نفلا سواء كان إماما أو منفردا( ).
-قوله: «بين يدي المصلي» أي: أمامه بالقرب منه( ).
وقيل: أي: ما بين موضع جبهته في سجوده وقدميه( ).
وعبَّر الرسول ? باليدين لكون أكثر الشغل يقع بهما، واختلف في تحديد ذلك فقيل إذا مر بينه وبين مقدار سجوده، وقيل بينه وبين قدر ثلاثة أذرع، وقيل بينه وبين قدر رمية بحجر( ).
-قوله: «ماذا عليه» في رواية «من الإثم»( ).
-قوله: «لكان أن يقف أربعين» يعني: أن المار لو علم مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي؛ لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم.
قال الكرماني: (جواب «لو» ليس هو المذكور بل التقدير: لو يعلم ما عليه لوقف أربعين، لكان خيرا له) ( ).
-قوله: «أربعين»، ذكر الكرماني لتخصيص الأربعين بالذكر حكمتين:
إحداهما: كون الأربعة أصل جميع الأعداد، فلما أريد التكثير ضربت في عشرة.
ثانيهما: كون كمال أطوار الإنسان بأربعين كالنطفة والمضغة والعلقة، وكذا بلوغ الأشد.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل غير ذلك( ).
وفي سنن ابن ماجة( ) من حديث أبي هريرة «لكان أن يقف مائة عام خيرا له من الخطوة التي خطاها». وهذا مشعر بأن إطلاق الأربعين للمبالغة في تعظيم الأمر لا لخصوص عدد معين( ).
ويحسن بنا هنا أن نذكر بعض الأحكام المتعلقة بالحديث( ):
1- استنبط ابن بطال من قوله «لو يعلم» أن الإثم يختص بمن يعلم بالنهي وارتكبه.
2- ظاهر الحديث أن الوعيد المذكور يختص بمن مر لا بمن وقف عامدا مثلا: بين يدي المصلي أو قعد أو رقد، ولكن إذا كانت العلة فيه تشويش على المصلي فهو معنى المار.
3- ظاهر الحديث أيضا عموم النهي في كل مصل، وخصه بعض المالكية بالإمام والمنفرد؛ لأن المأموم لا يضره من مر بين يديه لأن سترة إمامه سترة له أو إمامه سترة له.
4- السترة تفيد رفع الحرج عن المصلي لا عن المار.
5- ظاهر الحديث يفيد منع المرور مطلقا ولو لم يجد مسلكا، بل يقف حتى يفرغ المصلي من صلاته. ويؤيده قصة أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عندما كان يصلي يوم الجمعة وأمامه شيء يستره، فأراد شاب من بني أبي معيط أن يجتاز بين يديه فدفعه أبو سعيد في صدره فنظر الشاب فلم يجد مساغا إلا بين يديه فعاد ليجتاز فدفعه أبو سعيد أشد من الأولى، فنال من أبي سعيد. ثم دخل على مروان فشكا إليه ما لقي من أبي سعيد ودخل أبو سعيد خلفه على مروان، فقال: مالك ولابن أخيك يا أبا سعيد؟ قال: سمعت النبي ? يقول: «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبي فليقاتله فإنما هو شيطان»( ).
6- حكم المرور بين يدي المصلي عند أهل العلم: اختلف النقل عن أهل العلم في ذلك:
فنقل بعضهم الاتفاق على أنه مكروه، ونقل بعضهم الخلاف فيه، ونقل بعضهم أنه لا يعلم الخلاف في حرمته( ).
ونقل الإمام النووي -رحمه الله- الخلاف في ذلك فقال: (إذا صلى إلى سترة حرم على غيره المرور بينه وبين السترة ولا يحرم وراء السترة. وقال الغزالي: يكره ولا يحرم. والصحيح بل الصواب أنه حرم وبه قطع البغوي والمحقوق) ( ).

الحديث الخامس:
"خيرية التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلاة"
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء الفقراء إلى النبي ? فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم: يصلون كما نصلي, ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموالهم، يحجون بها ويعتمرون، ويجاهدون ويتصدقون. قال: «ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم، ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة، ثلاثا وثلاثين» فاختفينا بيننا فقال بعضنا: نسبح ثلاثا وثلاثين، ونحمد ثلاثا وثلاثين، ونكبر أربعة وثلاثين، فرجعت إليه فقال: «تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، حتى يكون منهن كلهن ثلاثا وثلاثين( ).
وفي رواية عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير الكلام أربع، لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر»( ).
قوله: «جاء الفقراء» قيل: منهم أبو ذر الغفاري وأبو الدرداء وأبو هريرة وزيدان بن ثابت( ).
-قوله: «أهل الدثور» جمع دثر وهو المال الكثير.
-قوله: «بالدرجات العلى» بضم العين، جمع العليا وهي تأنيث الأعلى. ويحتمل أن تكون حسية بمعنى درجات الجنات، أو معنوية بمعنى علو القدر عند الله( ).
-قوله: «النعيم المقيم» وصفه بالإقامة إشارة إلى ضده وهو النعيم العاجل، فإنه قل ما يصفو وإن صفا فهو بصدد الزوال.
-قوله: أدركتم من سبقكم» أي: من أهل الأموال الذي امتازوا عليكم بالصدقة، والسبقية هنا يحتمل أن تكون معنوية وأن تكون حسية، قال: الشيخ تقي الدين (والأول أقرب) ( ).
-قوله: «وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه» وعند مسلم «ولا يكون أحد أفضل منكم»( ).
الضمير في (كنتم) يحتمل أن يكون للمجموع من السابق والمدرك. ولا يلزم من الإدراك المساواة فقد يدرك ثم يفوق، وبهذا فالتقرب بهذا الذكر راجح على التقرب بالمال، وكذا قوله: «إلا من عمل مثله» أي: من الفقراء فقال الذكر، أو من الأغنياء فتصدق، أو أن الخطاب للفقراء خاصة لكن يشاركهم الأغنياء في الخيرية المذكورة فيكون كل من الصنفين خيرا ممن لا يتقرب بذكر ولا صدقة( ).
ويشهد لهذا حديث أبي ذر -رضي الله عنه- «أوليس قد جعل لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميده صدقة»( ) الحديث.
وقد يرد هنا إشكال وهو: تساوي فضل هذا الذكر بفضل التقرب بالمال مع شدة المشقة فيه.
أجاب الكرماني على هذا الإشكال بقوله: (لا يلزم أن يكون الثواب على قدر المشقة في كل حالة) ( )، واستدل لذلك بفضل كلمة الشهادة، ومع سهولتها على كثير من العبادات الشاقة( ).
-قوله: «تُسبحون وتحمدون وتُكبرون» في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير. وجاء في بعض الروايات تقديم التكبير على التحميد خاصة. وهذا الاختلاف دال على أن لا ترتيب فيها, ويُستأنس بحديث الباقيات الصالحات «لا يضرك بأيهن بدأت»( ).
ولكن ابن حجر استخرج لطيفة (فائدة) من هذا الترتيب حيث قال: (لكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح لأنه يتضمن نفي النقائص عن الباري سبحانه وتعالى، ثم التحميد لأنه يتضمن إثبات الكمال له، إذ لا يلزم من نفي النقائص وإثبات الكمال أن لا يكون هناك كبير آخر، ثم ختم بالتهليل الدال على انفراده سبحانه وتعالى بجميع ذلك) ( ).
-قوله: («خلف كل صلاة» أي: بعد الفراغ من الصلاة، ومقتضى الحديث أن الذكر المذكور يقال عند الفراغ من الصلاة فلو تأخر ذلك عن الفراغ فإن يسيرا بحيث لا يعد معرضا أو كان ناسيا متشاغلا بورد أيضا بعد الصلاة كآية الكرسي فلا يضر.
وظاهر الحديث يشمل كل صلاة سواء فرضا أو نفلا, ولكن بعض العلماء حملوه على الفرض( ). كما وقع التقييد عند مسلم «دبر كل صلاة مكتوبة»( ) فكان العلماء حملوا المطلقات عليها.
* ما يستفاد من الحديث:
1- إن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يُجيب بنفس الفاضل لئلا يقع الخلاف. وهذا مأخوذ من كونه ? أجاب بقوله: «ألا أدلكم على أمر تساوونهم فيه» وعدل ? عن قول (نعم أفضل منكم بذلك).
2- التوسعة في الغبطة( ).
3- المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، وهذا مأخوذ من قوله ?: «إلا من عمل» فهذا عام للفقراء والأغنياء.
4- أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق.
5- فضل الذكر عقب الصلوات.
6- أن العمل القاصر قد يساوي العمل المتعدي خلافا لمن قال: إن المتعدي أفضل مطلقا.
الحديث السادس:
"خيرية تعلم القرآن وتعليمه"
عن عثمان -رضي الله عنه-، عن النبي ? قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»( ).
وفي رواية قال النبي ?: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه»( ).
هذا الحديث فيه الحث على تعلم القرآن وتعليمه، ومعنى الحديث: أن من تعلم القرآن وعلمه غيره يكون أفضل من الذي يتعلم القرآن ولا يعلمه غيره، لأن أشرف العمل تعليم الغير. فمُعلم غيره يستلزم أن يكون تعلمه أولا وعلم غيره، فمحصل العمل بتعليمه لغيره حصل له النفع المتعدي بخلاف من يعمل فقط.
قال ابن حجر: (ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله: ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ? [فصلت: 33] والدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشر الجميع) ( ).
وهناك رواية للسرخسي «خيركم من تعلم القرآن أو علمه»( ) فيكون معنى (أو) للتنويع لا للشك. وهذه الرواية تقتضي إثبات الخيرية المذكورة في الحديث لمن فعل أحد الأمرين، فيلزم أن من تعلم القرآن ولو لم يعلمه غيره أن يكون خيرا ممن عمل بما فيه مثلا وإن لم يتعلمه( ).
قوله: «خيركم» اختلف في معنى الخيرية فيتحمل أن يكون المراد بها( ):
1- أن الخيرية وإن أطلقت فمقيدة بأناس مخصوصين خوطبوا بذلك، كان اللائق بحالهم ذلك.
2- المراد بها: خير المتعلمين من يعلم غيره لا من يقتصر على نفسه.
3- قيل: لابد من مراعاة الحيثية لأن القرآن خير الكلام فتعلمه خير من تعلم غيره بالنسبة إلى خيرية القرآن.
وقال ابن حجر بعد ما سبق هذه الأقوال: (وكيفما كان فهو مخصوص بمن علم وتعلم بحيث يكون قد علم ما يجب عليه عينا) ( ).
ومع هذا كله فلا يلزم أن يكون المقرئ أفضل مطلقا من الفقيه, أو الغني الذي ينفق في وجوه الخير أو, المجاهد والمرابط, والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر. لأن أساس المسألة في الخيرية يدور على النفع المتعدي، فمن كان نفعه متعديا أكثر كان أفضل. فلعل (من) في قوله: «خيركم من تعلم». مضمرة في الخيرية. ولابد مع ذلك من مراعاة الإخلاص في جميع الأعمال( ). سواء في تعلم القرآن وتعليمه أو التفقه في الدين أو في الإنفاق.
الحديث السابع:
"خيرية الإنفاق في سبيل الله"
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ? قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان...» ( ) الحديث.
قوله: «من أنفق زوجين» الزوجان: هما فرسان، أو عبدان، أو بعيران.
وقيل: كل شيء قُرن بصاحبه فهما زوجان.
وقيل المقصود بالزوجين: درهم ودينار، أو درهم وثوب.
والزوج يقع على الاثنين، ويقع على الواحد. وقيل إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر يقع الزوج أيضا على الصنف( ). وفُسر بقوله تعالى: ?وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً? [الواقعة: 7].
وقيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر من صلاتين، أو صيام يومين، والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى. والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في طاعة الله والإكثار منها( ).
قوله: «في سبيل الله» قيل: هو على العموم في جميع وجوه الخير، وقيل: هو مخصص بالجهاد. ورجح النووي: أن المقصود في سبيل الله هو على العموم( ).
قوله: «نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير» قيل: معناه: لك هنا خير وثواب وغبطة.
وقيل: معناه: هذا الباب خير لك من غيره من الأبواب لكثرة ثوابه ونعيمه، فتعال فادخل منه( ).
قوله: «فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة» وذكر مثله في الصدقة والجهاد والصيام. قال العلماء: معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك، فإنه يُنادى من هذا الباب الذي غلب عليه في الطاعة( ).
وقد أخبر النبي ? أن أفضل الصدقة ما يُنفق على الأهل وما ينفق في سبيل الله فعن ثوبان -رضي الله عنه- أن النبي ? قال: «أفضل دينار، دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله»( ).
الحديث الثامن:
"خيرية الصدقة عن ظهر غنى"
عن حكيم بن حزام -رضي الله عنه- عن النبي ? قال: «اليدُ العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يُغنه الله»( ).
قوله: «اليد العليا خير من اليد السفلى» جاء تفسيرها في رواية عبد الله بن عمر- رضي الله عنه-: «اليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة»( ).
ومنهم من قال: اليد العليا يد المعطى والسفلى يد السائل. وقيل: العليا المتعففة والسفلى السائلة( ). فتكون اليد المنفقة أعلى من السائلة، والمتعففة أعلى من السائلة( ).
وعن عوف بن مالك عن أبيه مرفوعا (الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى) ( ).
قال ابن حجر: (وأما يد الآدمي فهي أربعة: يد المعطي وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا، ثانيها: يد السائل، وقد تضافرت الأخبار بأنها السفلى سواء أخذت أم لا، وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالبا، وللمقابلة بين العلو والسفلى المشتق منهما. وثالثها: يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد يد المعطي مثلا، وهذه توصف بكونها عليا علوا معنويا. رابعها: يد الآخذ بغير سؤال، وهذه اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى وهذا بالنظر فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى وهذا بالنظر إلى الأمر المحسوس، وأما المعنوي فلا يطرد فقد تكن عليا في بعض الصور، وعليه يُحمل كلام من أطلق كونها عليا) ( ).
والمتتبع للأحاديث والآثار يخرج بنتيجة أن أعلى الأيدي, المنفقة، ثم المتعففة عن الأخذ، ثم الآخذة بغير سؤال، وأسفل الأيدي, السائلة, والمانعة والله أعلم( ).
والمراد بالعلو في هذا الحديث هو: علو الفضل والمجد ونيل الثواب من الله تعالى( ).
قوله: «وابدأ بمن تعول» أي: بمن يجب عليك نفقته.
يقال: عال الرجل أهله، إذا مانهم أي: قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة( ).
قوله: «وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً» أي: أفضل الصدقة ما بقى صاحبها مستغنيا بما بقى معه. وتقديره: أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله، لأن من تصدق بالجميع يندم غالبا، أو قد يندم إذا احتاج ويود أنه لم يتصدق بخلاف من بقي بعدها مستغنيا، فإنه لا يندم عليها بل يُسِر بها( ).
وقد اختلف في جواز التصدق بجميع المال، قال النووي: (مذهبنا أن التصدق بجميع المال مستحب لمن لا دين عليه، ولا له عيال لا يصبرون، بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم تجمع هذه الشروط فهو مكروه) ( ).
قوله: «ومن يستعفف» الاستعفاف: طلب العفاف والتعفف، وهو الكف عن الحرام والسؤال من الناس.
وقيل الاستعفاف: الصبر والنزاهة عن الشيء، يقال: عفَّ يعفُّ عفةً فهو عفيف.
فيكون المعنى: من طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها( ).
قوله: «يُعِفه الله» أي: أنه يجازيه على استعفافه بصيانة وجهه ودفع فاقته( ).
قوله: «ومن يستغن» أي: بالله عمن سواه.
قوله: «يغنه الله» أي: فإنه يعطيه ما يستغني به عن السؤال ويخلق في قلبه الغنى فإن الغنى غنى النفس( ).
* ما يستفاد من الحديث:
1- الحث على الإنفاق في وجوه الطاعة.
2- فضل الغنى مع القيام بحقوقه على الفقر، لأن العطاء إنما يكون مع الغنى.
3- كراهة السؤال والتنفير منه، إذا لم تدع إليه الحاجة أو يكون في مصالح المسلمين.
4- الابتداء بالأهم فالمهم في الأمور الشرعية.
5- أن أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى.
6- الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها ولو امتهن المرء نفسه في طلب الرزق وارتكب المشقة في ذلك.
الحديث التاسع:
"خيرية الرباط والغدوة والروحة في سبيل الله"
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها»( ).
وفي رواية عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال النبي ? «الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها»( ).
قوله: «الروحة» هي: المرة الواحدة من الرواح وهي: الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها.
قوله: «الغدوة» هي: المرة الواحدة من الغدو وهي الخروج في أي وقت كان من أول النهار إلى انتصافه( ).
والواو هنا في قوله: «الروحة والغدوة» للتقسيم لا للشك. ومعناها: أن الروحة يحصل بها الثواب، وكذلك الغدوة.
قال النووي: (والظاهر أنه لا يختص ذلك بالغدو والرواح من بلدته، بل يحصل هذا الثواب بكل غدوة أو روحة في طريقة للغزو. وكذا غدوة وروحة في مواضع القتال، لأن الجميع يسمى غدوة وروحة في سبيل الله) ( ).
قوله: «خير من الدنيا وما فيها» قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين.
أحدهما: أن يكون من باب تنزيل المغيب منزلة المحسوس؛ تحقيقا له في النفس لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة.
والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب الذي يحصل لمن لو حُوِّلت له الدنيا كلها لأنفقها في سبيل الله تعالى( ).
فيكون معنى الحديث: إن فضل الغدوة والروحة في سبيل الله وثوابهما خير من نعيم الدنيا كلها ولو ملكها إنسان وتُصُوِّر تنعُّمه بها كلها، لأنه زائل ونعيم الآخرة باق.
قال: القاضي عياض: (قيل في معناه ومعنى نظائره من تمثيل أمور الآخرة وثوابها بأمور الدنيا، إنها خير من الدنيا وما فيها لو ملكها إنسان وملك جميع ما فيها وأنفقه في أمور الآخرة) ( ).
ويشترك في هذا الأجر المرابط في سبيل الله، وهو الذي يلازم ثغر العدو، كما أخبر بذلك نبينا ? فقال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها»( ) الحديث.
بل إن المرابط في سبيل الله يأمن فتنة القبر، قال ?: «كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه يُنمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن فتنة القبر»( ).
وكذلك رباط يوم وليلة أفضل من صيام وقيام شهر بأكمله، فإذا مات المسلم في حال المرابطة استمر ثواب العمل الذي يعمله إلى يوم الدين. فقد جاء في الحديث: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه جرى عليه عمله الذي كان يعمل وأجرى عليه رزقه وأمن الفتَّان»( ).
إن أجر الشهيد لا يوازيه أجر آخر، فقد أخبر النبي ? «أن الله تعالى أعد في الجنة مائة درجة للمجاهدين، وكل منها تعلو الأخرى بما بين السماء والأرض». فقال ?: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين، كما بين السماء والأرض»( ).
والمجاهد في سبيل الله حقا تحرم عليه النار، ففي الحديث: «عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله»( ).
الحديث العاشر:
"خيرية إطعام الطعام وإفشاء السلام"
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجلا سأل النبي ?: أي الإسلام خير؟ قال: «تُطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»( ).
وفي رواية: عن صهيب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ? يقول: «خيركم من أطعم الطعام ورد السلام»( ).
قوله: «أن رجلا» قيل إنه أبو ذر وقيل أنه هاني بن يزيد والد شريح( ).
قوله: «أي الإسلام خير» معناه: أي خصاله وأموره وأحواله( ) فيكون تقديره أي خصال الإسلام( ).
وقوله: «تطعم الطعام» هو في تقدير المصدر أي: أن تُطعم، وذكر ? الإطعام ليدخل فيه الضيافة وغيرها( ).
وقوله: «تقرأ السلام» بلفظ مضارع القراءة بمعنى تقول، قال أبو حاتم السجستاني: (تقول اقرأ عليه السلام ولا تقول أقرئه السلام، فإذا كان مكتوبا قلت السلام أي: اجعله يقرأه) ( ).
ولابد في السلام أن يكون بلفظ مُسمع لمن يرد عليه فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن ابن عمر «إذا سلمت فأسمع، فإنها تحية من عند الله»( ).
قال النووي (أقلُّة أن يرفع صوته بحيث يسمع المسلم عليه، فإن لم يكن آتياً بالسنة فإن شك استظهر) ( ).
ويجوز الإشارة بالسلام على من بعد عن سماع لفظ السلام( ).
وخص الرسول ? هاتين الخصلتين بالذكر لمسيس الحاجة إليهما في ذلك الوقت، لما كانوا فيه من الجهد ولمصلحة التأليف. ويدل على ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حث عليهما أول ما دخل المدينة( )، كما رواه الترمذي وغيره من حديث عبد الله بن سلام «أيها الناس: أطعموا الطعام، وأفشو السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»( ). قال النووي: (وإنما وقع الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم، لما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك) ( ) هذا في زمن الرسول ? فكيف بحالنا اليوم من بعد الناس عن سنة نبينا محمد ? وأن ندرس معالمها فإلى الله المشتكي.
قوله: «على من عرفت ومن لمن تعرف» أي: لا تخُص به أحدا تكبرا أو تصنعا، بل تعظيما لشعار الإسلام ومراعاة لأخوة المسلم( ).
ولا يخص بالسلام على من يعرف كما يفعله كثير من الناس اليوم. قال النووي (في التسليم على من لم يعرف: إخلاص العمل لله تعالى، استعمال التواضع، وإفشاء السلام الذي شعار هذه الأمة)( ).
وقال ابن بطال: (في مشروعية السلام على غير معروف استفتاح المخاطبة؛ للتأنيس ليكون المؤمنون كلهم أخوة فلا يستوحش أحد من أحد) ( ).
الحديث الحادي عشر:
"خيرية حسن الخلق"
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: لم يكن النبي ? فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقا»( ).
وفي رواية عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا»( ).
قوله: «لم يكن فاحشا ولا متفحشا» قال القاضي: أصل الفحش الزيادة والخروج عن الحد.
قال ابن عرفة: الفواحش عند العرب القبائح.
والمتفحش الذي يتكلف الفحش ويعتمده لفساد حاله، وقد يكون المتفحش هو الذي يأتي الفاحشة( ).
قوله: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقا».
حسن الخلق: هو اختيار الفضائل وترك الرذائل( ).
وقيل: التخلي عن الرذائل، والتحلي بالفضائل.
وقيل: بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذى.
وقيل: بذل الجميل، وكف القبيح( ).
قال الحسن البصري: (حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكف الأذى، وطلاقة الوجه) ( ).
وقال القاضي عياض: (هو مخالطة الناس بالجميل والبشر والتودد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكبر والاستطالة عليهم، ومجانبة الغلط والغضب، والمؤاخذة) ( ).
وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يُتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل والكذب، والغيبة والنميمة.
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته. وتحمله على كظم الغيظ والحلم، فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنائها، ويكبحها بلجامها عن النزع والطيش. كما قال النبي ?: «ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب»( ) وهو حقيقة الشجاعة، وهي ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط.
فيحمله على خُلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة. وعلى خُلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور. وعلى خُلق الحِلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأُ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة( ).
واعلم أن أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة الخُلق الحسن، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- عن النبي ? قال: «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخلق، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء»( ).
بل إن أكثر ما يُدخل الناس الجنة هو حسن الخلق، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ? سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحسن الخلق». وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: «الفم والفرج»( ).
ويدرك المؤمن بحسن خلقه درجة الصائم القائم، كما ثبت عن النبي ? حيث قال: «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»( ).
وأحب الناس لرسول الله ? وأقربهم مجلسا إليه يوم القيامة أحاسنهم أخلاقا قال رسول الله ?: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا»( ).
بل إن حسن الخلق أعظم خصال البر كما أخبر به الصادق المصدوق في قوله ?: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس»( ).
فقابل البر بالإثم، وأخبر: أن البر حسن الخلق، والإثم: حواز الصدور، وهذا يدل على أن حسن الخلق: هو الدين كله. وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام، ولهذا قابله بالإثم( ).
وقد جمع الله لنبيه ? مكارم الأخلاق في قوله تعالى: ?خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ? [الأعراف: 129]. قال عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس، مثل قبول الأعذار، والعفو والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث، والتفتيش عن حقائق بواطنهم( ).
وحسن الخلق من صفات النبيين والمرسلين وخيار المؤمنين الذين يتصفون في المعاملة والرفق في المحاولة والعدل في الأحكام والبذل في الإحسان وغير ذلك من صفات المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى، فقال: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ? إلى قوله: ?أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا? [الأنفال: 2-4] وقال تعالى: ?التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ? إلى قوله: ?وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ? [التوبة: 112].
وقال: ?قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ? إلى قوله: ?أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ? [المؤمنون: 1-10] وقال ?وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا? [الفرقان: 63] إلى آخر السورة.
فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميعها علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يذل على البعض دون البعض، فليشتغل بحفظ ما وجده وتحصيل ما فقده( ).
ولا يظن ظانٌ أن حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش والمعاصي فقط، وأن من فعل ذلك فقد هذب خلقه، بل حسن الخلق ما ذكر من صفات المؤمنين والتخلق بأخلاقهم.
الحديث الثاني عشر:
"خيرية الصفح والعفو وعدم الهجر"
عن أبي أيوب الأنصاري: أن رسول الله ? قال: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»( ).
وقوله: «أن يهجر» الهجر ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلا أو قولا. وليس المراد بها مفارقة الوطن( ).
قوله «فوق ثلاث» أي: ثلاثة أيام بلياليها، لأنها أطلقت الأيام ولم تقيد. فإذا أطلقت الليالي أريد بأيامها، وإذا أطلقت الأيام أريد بلياليها( ).
قوله: «يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا» في رواية: «فيصد هذا ويصد هذا»( ).
ومعنى يصُد: يُعرض. أي يوليه عُرضَه وهو جانبه وناحيته( ).
قوله: «وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» أي: أفضلهما الذي يبدأ بالسلام إذا التقيا.
ففي الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال وهذا بنص الحديث، وإباحتها في الثلاث وهذا بمفهومه.
والحكمة من إباحة الهجر في الأيام الثلاثة الأولى, هي أن الإنسان مجبول على الغضب وسوء الخلق ونحو ذلك، فعُفي عن الهجر في الثلاثة الأيام ليذهب ذلك العارض والغالب أنه يزول أو يقل في الثلاث( ).
ففي اليوم الأول يسكن غضبه، وفي الثاني يراجع نفسه، وفي الثالث يعتذر وما زاد عن ذلك كان قاطعا لحقوق الأخوة( ). وإذا التقى المتهاجران فخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام، فإن لم يرد الطرف الآخر السلام باء بالإثم, وإن رد اشتراكا في الأجر عند الله تعالى.
* ما يستفاد من الحديث:
1- حرمة هجر المسلم فوق ثلاثة أيام، وجوازه ثلاثة أيام.
2- تزول الهجرة بمجرد إلقاء السلام ورده.
3- خير المتهاجرين الذي يبدأ صاحبه بالسلام.
4- إن من أعرض عن أخيه المسلم وامتنع عن مكالمته والسلام عليه؛ فإنه يأثم بذلك، لأن نفي الحال يستلزم التحريم ومرتكب المحرم آثم.
5- يجوز الهجر فوق ثلاثة أيام؛ لمن كانت مكالمته تجلب نقصا على المخاطب في دينه, أو تحصل عليه في نفسه مضرة أو في دنياه. فرب هجر جميل خير من مخالطة مؤذية( ).
6- تزول الهجرة بالمكالمة أو المراسلة إذا كان الطرف الآخر غير موجود ولا يمكن مكالمته، لأن الوحشة تزول بذلك( ).
الحديث الثالث عشر:
"خيرية كف اللسان واليد عن المسلمين"
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن رجلا سأل رسول الله ? أي المسلمين خير؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»( ).
وفي رواية عند البخاري: أي الإسلام أفضل؟ قال:
«من سلم المسلمون من لسانه ويده»( ).
قوله: «أي الإسلام أفضل» أي: ذوي الإسلام أفضل؟ ويؤيد هذا المعنى رواية مسلم «أي المسلمين»، والجامع بين اللفظين أن أفضلية المسلم حاصلة بهذه الخصلة( ).
وهنا ينشأ سؤال وهو: ما الحكمة من أن الرسول ? عندما سئل عن الخصال أجاب بصاحب الخصلة؟
الجواب: أن هذه الإجابة تأتي نحو: قوله تعالى: ?يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ?
[البقرة: 215].
والتقدير: (بأي ذوي الإسلام) يقع الجواب مطابقا له بغير تأويل، إذا ثبت أن بعض خصال المسلمين المتعلقة بالإسلام أفضل من بعض( ).
قوله: «أفضل» أي: أفضل من غيره.
قوله: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» معناه: من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل( ).
والمراد بالمسلم: المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عمن لم يكن بهذه الصفة، وهو من باب التفضيل لا الحصر( ).
وعبر الرسول ? بلفظ «المسلم» من باب التغليب، فإن المسلمات يدخلن في ذلك.
وخص اللسان بالذكر لأنه المعبر عما في النفس، وهكذا اليد لأن أكثر الأفعال بها.
والحديث عام بالنسبة إلى اللسان دون اليد، لأن اللسان يمكنه الكلام في الماضي والحاضر والمستقبل بخلاف اليد، ويمكن أن تشارك اللسان بالكتابة وإن أثرها في ذلك عظيم. ويُستثنى من ذلك شرعا تعاطي الضرب في إقامة الحدود والتعازير على المسلم المستحق لذلك.
وفي التعبير باللسان دون القول حتى يشمل كل حركة اللسان، ومن ذلك حركة اللسان حركة اللسان على شكل الاستهزاء.
وكذلك تخصيص الرسول ? اليد دون الجوارح فيه حكمة فيدخل في اليد، اليد المعنوية كالاستيلاء على حق الغير بغير حق( ).

الحديث الرابع عشر:
"خيرية حسن الخلق مع الأهل"
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ?: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»( ).
وفي رواية عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم»( ).
بين الرسول ? في هذين الحديثين أعلى الناس رتبة في الخير وأحقهم بالاتصاف به هو من كان خير الناس لأهله، فإن الأهل هم الأحق بالبِشر وحسن الخلق والإحسان وجلب النفع ودفع الضر، فإذا كان الرجل كذلك فهو خير الناس, وإن كان على العكس من ذلك؛ فهو في الجانب الآخر من الشر.
وكثيرا ما يقع الناس في هذا الأمر، فترى الرجل إذا لقي أهله كان أسوأ الناس وأشحهم نفسا وأقلهم خيرا فلا لين جانب ولا بشر ولا ملاطفة.
وإذا لقي غير الأهل من الأصحاب لانت عريكته وانبسطت أخلاقه ودرجة نفسه وكثر خيره.
ولا شك أن من كان هذا حاله فهو محروم التوفيق وبعيد عن سنة الرسول ? وزائغ عن سواء الطريق نسأل الله السلامة( ).
الحديث الخامس عشر:
"خيرية حسن قضاء الدين"
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان لرجل على النبي ? سنَّ من الإبل فجاءه يتقاضاه، فقال: «أعطوه» فطلبوا سنَّة فلم يجدوا له إلا سنَّاً فوقها، فقال: «أعطوه».
فقال: «أوفيتني أوفى الله بك». قال ?: «إن خياركم أحسنكم قضاء»( ).
وفي رواية عند مسلم عن أبي رافع أن رسول الله ? استسلف من رجل بكرة فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرة، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا رباعيا فقال: «أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء»( ).
هذا الحديث فيه دلالة على جواز أن يرد المقترض نظير ما اقترضه أو خيرا منه. بل يستحب لمن عليه دين من قرض وغيره, أن يرد أجود من الذي عليه، وهذا من السنة ومكارم الأخلاق, وليس هو من قرض جر منفعة فإنه منهي عنه؛ لأن المنهي عنه ما كان مشروطا في عقد القرض( ).
وكذلك يُستحب أيضا الزيادة في الأداء عما عليه، ويجوز للمقترض أخذها سواء زاد في الصيغة أو في العدد، فمثلا أقرضه عشرة فردها عليه أحد عشر( ).
قوله: «كان لرجل( ) على النبي ? سنَّ من الإبل( ) فجاءه يتقاضاه» أي: يطلب منه قضاء الدين.
قوله: «إن خياركم أحسنكم قضاء» وفي رواية ابن مبارك «أفضلكم أحسنكم قضاء»( ).
أي: أنه خيرهم في المعاملة.
وقال بعض العلماء: في هذا الحديث من الفقه:
1- جواز المطالبة بالدين إذا حل الأجل.
2- حسن خلق الرسول ?، وعظم حلمه وتواضعه وإنصافه.
3- أن من عليه دين لا يجب عليه مجافاة صاحب الحق.
4- جواز استقراض الإبل، ويلتحق بها جميع الحيوانات وهو قول أكثر أهل العلم( ).
الحديث السادس عشر:
"خيرية خُلق الحياء"
عن عمران بن حصين قال: قال النبي ?: «الحياء لا يأتي إلا بخير»( ).
وفي رواية «الحياء خير كله»( ).
- قوله: «الحياء» الحياء من الحياة ومنه (الحياء) للمطر لكن هو مقصور( ).
وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك من لوازم الحياء.
وفي الشرع: خُلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق( ).
قال الجنيد: الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء( ).
والحياء قد يكون غريزة، وقد يكون تخلقا (مكتسب) ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية. فعلى ذلك كان الحياء من الإيمان كما أخبر به النبي ? في قوله: «والحياءُ شعبةٌ من الإيمان»( ).
والحياء إن كان باعثا على فعل الطاعات, وحاجزا عن فعل المعصية كان خلقا وسجية، كما أخبر به النبي ? في قوله: «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»( ) وفي هذا قولان:
أحدهما: أنه تهديد. ومعناه الخبر، أي من لم يستح صنع ما شاء.
والثاني: أنه أمر إباحة، أي أنظر إلى الفعل الذي تريد أن تفعله، فإن كان مما لا يستحيا منه فافعله، والأول أصح، وهو قول الأكثرين( ).
وفي الترمذي مرفوعا «استحيوا من الله حق الحياء». قالوا: إنا نستحيي يا رسول الله. قال: «ليس ذلكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء, فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى. ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء»( ).
وليس من الحياء والاستحياء, الامتناع عن قول الحق أو فعل الخير وإنكار المنكر أو الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف، بل هو عجز ومهانة وجبن، وإنما أطلق عليه الحياء لمشابهته الحياء الشرعي( ).
وقد جمع الله لنبيه ? بين نوعي الحياء الفطري والمكتسب.
قال القرطبي: (وكان النبي ? قد جُمع له النوعان -من الحياء المكتسب والغريزي- فكان في الغريزي أشد حياء من العذراء في خدرها( ) وكان في المكتسب في الذروة العليا ?)( ).
وقد قسم (الحياء) إلى عشرة أوجه: حياء جناية. وحياء تقصير. وحياء إجلال. . وحياء حشمة. وحياء استصغار للنفس واحتقار لها. وحياء محبة. وحياء عبودية. وحياء شرف وعزة. وحياء المستحيي من نفسه( ).
إن المرء إذا تجرد من الحياء الشرعي، يصبح مثل الذي يقف وسط الناس كما ولدته أمه، وليس هناك من حكم عليه أصدق من أنه (معتوه).
وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- كثيرا ما يتمثل ببيت من الشعر يشير إلى ضرورة الحياء في حياة كل إنسان، حيث يكون بمثابة الستر الذي يواري سوأته، ونص البيت:
إني كأني أرى من لا حياء له

ولا أمانة وسطَ القوم عُرياناً
وجاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، قول يفيد هذا المعنى من أن الحياء كالثوب الذي يستر صاحبه، فهو يقول: (من كساه ثوبه لم ير الناس عيبه) ( ).
- قوله: «لا يأتي إلا بخير» أي: من كان الحياء خُلقه أن الخير يكون فيه أغلب، أو لكونه صار عادة وتخلق به صاحبه يكون سببا لجلب الخير إليه فيكون منه الخير بالذات والسبب( ).
وخلاصة القول: إن خلق الحياء دلالة على اعتدال الأخلاق ورمز لصفاء القلب ونقاء الضمير، فإذا تحلى المسلم بهذا الخلق صحت سريرته وعلانيته وعامل الخلق بما يرضاه مولاه.
وكذلك المسلم الحيي لا يقبل إلا الحلال من كل شيء في المطعم والمشرب والملبس والمسكن وغير ذلك.
ولا يخفى ما لهذه الأمور من خير يعود على الفرد والأمة الإسلامية بالعدل والأمن، وهذا مصداقا لقوله ? «الحياء لا يأتي إلا بخير»( ).
الحديث السابع عشر:
"خيرية الكسب وعمل اليد"
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير الكسب كسب العامل إذا نصح»( ).
حث النبي ? في هذا الحديث على العمل, ورغب في العمل اليدوي وأنه أطيب الكسب، لما فيه من صدق التوكل على الله -سبحانه وتعالى- والنفع العام للآدمي وللدواب.
قال ابن حجر: (وفوق ذلك من عمل اليد ما يكسب من أموال الكفار بالجهاد، وهو مكسب النبي ? وأصحابه وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء لكلمة الله -تعالى- وخذلان كلمة أعدائه والنفع المتعدي) ( ).
- قوله: «كسب يد العامل إذا نصح» يتحقق خير المكسب باليد بشرطين هما( ):
1- إذا نصح العامل في هذا العمل.
2- أن لا يعتقد العامل أن الرزق من الكسب، بل من الله تعالى بهذه الواسطة.
بل إن الرسول ? جعل خير الطعام ما كان من كسب اليد، فقال: ?: «ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده»( ).
والحكمة من أن رسول الله ? خص داود -عليه السلام- بالذكر في هذا الحديث أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه خليفة في الأرض كما أخبر الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل عن طريق الأفضل، لهذا أورد النبي ? قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد( ).
والمراد بالخيرية في هذا الحديث: ما يستلزم العمل باليد من الغنى عن الناس (185)، كما ثبت في الحديث عن سهل بن سعد قال: جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي ? فقال: "يا محمد عشْ ما شئت فإنك ميت، وأحببْ من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزي به، ثم قال: يا محمد شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس"( ).
ومما جعل عمل اليد من أفضل المكاسب أنه سنة الأنبياء -عليهم السلام- فقد ورد أن آدم كان حرّاثاً, ونوح كان نجارا, وإدريس كان خياطا, وموسى كان راعيا( ). وأفضل الخلق زاول العمل باليد, كما رعى الغنم عليه وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. ومع هذا فقد أمرنا بالاقتداء بهم, والسير على نهجهم قال الله تعالى: ?فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ? [الأنعام: 90] الآية.
الحديث الثامن عشر:
"خيرية التيسير في المهر"
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير الصداق أيسره»( ).
وفي رواية عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله ? قال: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مئونة»( ).
أرشد النبي ? في هذين الحديثين إلى عدم التغالي في المهور والتيسير فيها.
كما يحث الرسول ? على أفضلية النكاح مع قلة المهر، وأن الزواج بمهر قليل مندوب إليه؛ لأن المهر إذا كان قليلا لم يستصعب النكاح من يريده فيكثر الزواج المرغب فيه، ويقدر عليه الفقراء ويكثر النسل الذي هو أهم مطالب الزواج، بخلاف ما إذا كان المهر كثيرا فإنه لا يتمكن منه إلا أرباب الأموال( ).
والمغالاة في المهور تعطي الشباب فرصة التعلل والإكثار من المعاذير والحجج، فيسهل عليهم الإحجام عن الزواج ويحصل بذلك مفاسد عظيمة على الشاب والفتاة.
فعلى المسلم أن يقتدي برسول الأمة ?، فقد ثبت أن زوجات النبي ? إلا أم حبيبة بنت أبي سفيان( ) لم تزد مهورهن على خمسمائة درهم في أكثر الروايات، فقد قالت عائشة -رضي الله عنها- عندما سألها أبو سلمة: كم كان صداق رسول الله ?؟ "كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشئاً، قالت: أتدري ما النشء؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية. فتلك خمسمائة درهم، فهذا صداق رسول الله ? لأزواجه( ).
الحديث التاسع عشر:
"خيرية إغناء الورثة"
عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: جاء النبي ? يعودني وأنا بمكة، وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها قال: «يرحم الله ابن عفراء» قلت: يا رسول الله أُوصي بمالي كله؟ قال: «لا» قلت: فالشطر؟ قال «لا» قلت: الثلث؟ قال «فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تدع ورثتك أغنياء، خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس في أيديهم، وإنك مهما أنفقت فإنها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها إلى فيِِّ امرأتك، وعسى الله أن يرفعك فينتفع بك ناس ويضر بك آخرون» ولم يكن له يومئذ إلا ابنة( ).
- قوله: «ورثتك» عبر ? بلفظ الورثة، ولم يكن لسعد إلا ابنة واحدة، لكون الوارث حينئذ لمن يتحقق، ولأن سعداً قال ذلك بناء على موته في ذلك المرض وبقائها بعده حتى ترثه، وكان من الجائز أن تموت هي قبله فأجابه النبي ? بكلام مطابق لكل حالة وهو «ورثتك» ولم يخص بنتا من غيرها.
وقيل: إنما عبر ? بالورثة لأنه أُطلع على أن سعدا سيعيش ويأتيه أولاد غير البنت المذكورة. وولد له بعد ذلك أربعة بنين، وهم: عامر ومصعب ومحمد وعمر( ).
وقيل: إنه قد كان لسعد وقت الوصية ورثة غير ابنته وهم: أولاد أخيه عتبة بن أبي وقاص منهم هاشم بن عتبة وقد كان موجودا إذ ذاك( ).
- قوله: «عالة» جمع عائل أي فقراء.
- قوله: «يتكففون الناس» أي: يسألونهم بأكفهم، يقال: تكفف الناس واستكف إذا بسط كفه للسؤال، أو سأله ما يكُفُّ عنه الجوع( ).
- قوله: «وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة» هذا جواب من الرسول ? فيه بيان العلة من النهي عن الوصية بأكثر من الثلث، كأنه قال: لا تفعل لأنك إن مت تركت ورثتك أغنياء، وإن عشت تصدقت وأنفقت، فالأجر حاصل لك في الحالتين.
- قوله: «وعسى الله أن يرفعك» أي: يطيل عمرك، فقد عاش سعد -رضي الله عنه- أزيد من أربعين سنة بل قريب من خمسين، فيكون عاش بعد حجة الوداع خمسا وأربعين أو ثمان وأربعين( ).
-قوله: «فينتفع بك ناس ويُضر بك آخرون» أي: ينتفع بك المسلمون بالغنائم مما سيفتح الله على يديك من بلاد الشرك. ويضر بك المشركون الذي يهلكون على يديك.
* من فوائد الحديث:
1- مشروعية زيارة المريض للإمام ممن دونه, وتتأكد باشتداد المرض.
2- وضعُ اليد على جبهة المريض، ومسح العضو الذي يؤلمه، والدعاء له بطول العمر.
3- إن أعمال البر والطاعة إذا كان منها مالا يمكن استدراكه, قام غيره في الثواب والأجر مقامه وربما زاد عليه. وذلك أن سعدا خاف أن يموت بالدار التي هاجر منها فيفوت عليه بعض أجر هجرته، فأخبره ? بأنه إن تخلف عن دار هجرته فعمل عملا صالحا من حج أو جهاد أو غير ذلك, كان له به أجر يعوض ما فاته من الجهة الأخرى.
4- الحث على صلة الأرحام والأقارب والشفقة على الورثة، وأن صلة الأقرب أفضل من صلة الأبعد.
5- أن المباح إذا قُصد به وجه الله صار طاعة، وذلك في قوله ?: «حتى اللقمة التي ترفعها إلى فيِّ امرأتك».
6- الحث على الكسب الحلال من أجل إغناء الورثة عن سؤال الناس بعد موت عائلهم.
7- التأسف على فوت ما يحصل من الثواب.
8- النظر في مصالح الورثة.
9- من ترك مالا قليلا فالاختيار له ترك الوصية, أو إبقاء المال للورثة.
الحديث العشرون:
"خيرية اجتناب الفتن"
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن تشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به»( ).
يبين هذا الحديث الشريف عِظَمَ خطر الفتن والحث على تجنبها والهرب منها، ومن التسبب في شيء من أسبابها والبعد عنها، فإن شرها وفتنتها يكن على حسب التعلق بها.
- قوله: «ستكون فتن» المقصود بالفتنة هنا في هذا الحديث: ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يُعلم الحق من الباطل( ).
- قوله: «القاعد فيها خير من القائم» وفي رواية عند مسلم: «النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القائم»( ) فيكون المعنى إذاً: أي القاعد في زمانها عنها، والمراد بالقائم الذي لا يستشرفها.
- قوله: «والقائم فيها خير من الماشي» المراد بالماشي: من يمشي في أسبابه لأمر سواها، فربما يقع بسبب مشيه في أمر يكرهه. قال ابن التين نقلا عن الداودي: (أن المراد من يكون مُباشرا لها في الأحوال كلها، يعني أن بعضهم في ذلك أشد من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها بحيث يكون سببا لإثارتها، ثم من يكون قائما بأسبابها وهو الماشي، ثم من يكون مباشرا لها وهو القائم، ثم من يكن مع النظارة ولا يقاتل وهو القاعد، ثم من يكون مجتنبا لها ولا يباشر ولا ينظر وهو المضطجع اليقظان، ثم من لا يقع منه شيء من ذلك ولكنه راض وهو النائم والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية من يكون أقل شرا ممن فوقه على التفصيل المذكور) ( ).
- قوله: «من تشرف لها» أي: تطلع لها بأن يتصدى ويتعرض لها ولا يُعرض عنها.
قوله: «تستشرفه» أي: تهلكه بأن يُشرف منها على الهلاك.
يقال: استشرفت الشيء علوته وأشرفت عليه، يريد من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه، وحاصله أن من طلع فيها بشخصه قابلته بشرها.
ويحتمل أن يكون المراد: من خاطر فيها بنفسه أهلكته، كقول القائل: من غالبها غلبته( ).
- قوله: «ملجأ» أي: يلتجئ إليه من شرها.
- قوله: «معاذًا» أي: ليعتزل فيه ليسلم من الفتنة.
وقد جاء تفسير هذا المعاذ والملجأ عند مسلم من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- ولفظه: «فإذا نزلت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله -وذكر الغنم والأرض-» قال رجل: يا رسول الله أرأيت من لم يكن له؟ قال: «يعمدُ إلى سيفه فيدُقَّ على حده بحجر ثم لينجُ إن استطاع( )».
وقد اختلف العلماء في حكم الدخول في القتال بين المسلمين: منهم من حمل عدم الدخول في القتال بين المسلمين، وعلى المسلم أن يلزم بيته أو يتحول عن بلد الفتن. أما إذا هجم عليه شيء من ذلك، فإنه يكف يده ولو قُتل، ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله وهو معذور إن قَتل أو قُتل.
أما إذا تحاربت طائفتان من المسلمين وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصرُ المصيب والقيام معه بمقاتلة الباغين، كما قال تعالى: ? فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ? [الحجرات: 9] الآية، وهذا هو قول الجمهور( ).
قال الطبري: (والصواب أن يقال: إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها) ( ).
وقال بعض العلماء: إن الأحاديث وردت في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك.
وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان، حيث التحقيق أن المقاتلة إنما هي في طلب الملك( ). ويؤيد هذا الرأي ما رواه ابن مسعود -رضي الله عنه- قلتُ: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: «أيام الهرج»، قلت ومتى؟ قال: «حين لا يأمنُ الرجل على نفسه»( ).

القسم الثاني
الحديث الأول:
"خير بقاع الأرض"
عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خيرُ البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق»( ).
الحديث الثاني:
"خير الدعاء"
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ?: «خير الدعاء دعاء بوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير»( ).
الحديث الثالث:
"خير الرزق"
عن زياد بن جبير قال: قال رسول الله ?: «خير الرزق الكفاف»( ).
الحديث الرابع:
"خير الأسماء"
عن أبي سبرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير أسمائكم عبد الله وعبد الرحمن والحارث»( ).
الحديث الخامس:
"خير الشهادة"
عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير الشهود من أدى شهادته قبل أن يُسألها»( ).
وفي رواية: «خير الشهادة ما شهد به صاحُبها قبل أن يسألها»( ).
الحديث السادس:
"خير العمل"
عن عبد الله بن بسر المازني قال: قال رسول الله ?: «خير العمل أن تفارق الدنيا، ولسانك رطب من ذكر الله»( ).
الحديث السابع:
"خير المجالس"
عن أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله ? يقول: «خير المجالس أوسعها»( ).
الحديث الثامن:
"خير الناس"
عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير الناس أنفعهم للناس»( ).
الحديثان التاسع والعاشر:
"خير النساء"
عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير النساء التي تسره إذا نظر، وتُطيعه إذا أمر، ولا تُخالفه في نفسها ولا ما لها بما يكره»( ).
عن أبي دنية الصدفي -رضي الله عنه- أن رسول الله ? قال: «خير نسائكم الولود الودود، المواسية المواتية إذا اتقين الله، وشر نسائكم المتبرجات المتخيلات وهن المنافقات لا يدخل الجنة إلا مثلُ الغراب الأعصم»( ).
الحديث الحادي عشر:
"خير الأصحاب"
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره»( ).
الحديث الثاني عشر:
"خير التمر"
عن بريدة بن الحصيب عن أبيه قال: قال رسول الله ?: «خير تمراتكم البُرني؛ يُذهب الداء ولا داء فيه»( ).
الحديث الثالث عشر:
"خير الثياب"
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير الثياب ثيابكم البياض ألبسوها أحياءكم, وكفنوا فيها موتاكم»( ).
وفي رواية: عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير ثيابكم البياض فكفنوا فيها موتاكم، وألبسوها أحياءكم، وخير أكحالكم الإثمد يُنبت الشعر، ويجلو البصر»( ).
الحديث الرابع عشر:
"خير الدين"
عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ? «خير دينكم الورع»( ).
وفي رواية: عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير دينكم أيسره»( ).
الحديث الخامس عشر:
"خير الدواء"
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ? «خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري( )، ولا تُعذبوا صبيانكم بالغمز( )»( ).
الحديث السادس عشر:
"خير ما ركبت إليه الرواحل"
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ? : «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق»( ).
الحديث السابع عشر:
"خير مساجد النساء"
عن أم سلمة أن رسول الله ? قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن»( ).
الحديث الثامن عشر:
"خير ما يخلف الإنسان بعد وفاته"
عن أبي قتادة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير ما يخلف الإنسان بعده ثلاث: ولد صالح يدعو له، وصدقة جارية تجري يبلغه أجرها، وعلم ينتفع به من بعده»( ).
الحديث التاسع عشر:
"خير الصلاة"
عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»( ).
الحديث العشرون:
"خير الحجامة"
عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ?: «خير يوم تحتجمون فيه سبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين، وما مررت بملأ من الملائكة ليلة أسري بي إلا قالوا: عليك بالحجامة يا محمد»( ).

المراجــع
1- صحيح البخاري، ضبط وترتيب مصطفى البغا، دار ابن كثير، دمشق، ط5، 1414هـ.
2- صحيح مسلم، دار ابن حزم، بيروت، ط1، 1416 هـ.
3-مسند الإمام أحمد، أشرف على الطبعة سمير مجذوب، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1413 هـ.
4- سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت.
5- سنن الترمذي، تحقيق أحمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت.
6- سنن النسائي بشرح الحافظ السيوطي وحاشية الإمام السندي، عناية عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، ط3، 1414 هـ.
7- سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1414 هـ.
8- المستدرك على الصحيحين، الحاكم، دار المعرفة، بيروت.
9- الأدب المفرد، البخاري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، ط1، 1406 هـ.
10- كشف الخلفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، العجلوني، دال الكتب العلمية بيروت، ط3، 1408 هـ.
11- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، السخاوي، تحقيق محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت.
12- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، المنذري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط2، 1388.
13- الإحسانُ بترتيب صحيح ابن حبان، ترتيب الأمير علاء الدين بن بلبان الفارسي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1407 هـ.
14- صحيح الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1406 هـ.
15- سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط4، 1405 هـ.
16-سلسلة الأحاديث الضعيفة، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، ط5، 1405 هـ.
17- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية.
18- شرح صحيح مسلم، النووي، دار الخير، بيروت، ط1، 1414 هـ.
19- بذل المجهود في حل أبي داود، أحمد السهارنفردي، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1408 هـ.
20- عون المعبود شرح سنن أبي داود، ابن قيم الجوزية، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، مؤسسة قرطبة الهرم، ط2ـ 1388 هـ.
21- معالم السنن، أبي إسماعيل حمد الخطابي، المكتبة العلمية، بيروت، ط2، 1401 هـ.
22- شرح الأربعين النووية في الأحاديث الصحيحة، ابن دقيق العيد، دار القاسم، الرياض، ط1، 1421 هـ.
23- مدارج السالكين بين منازل (إياك نعبد وإياك نستعين)، ابن قيم الجوزية، تحقيق محمد المعتصم بالله البغدادي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1410 هـ.
24- زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، بيروت ط27، 1414 هـ.
25- المجموع شرح المهذب، أبو بكر زكريا محيي الدين النووي، دار الفكر.
26- سبل السلام شرح بلوغ المرام، الصنعاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1414 هـ.
27- نيل الأوطار شرح منتقى الاخبار، الشوكاني، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1413 هـ.
28- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، توزيع دار الباز، مكة المكرمة.
29- لسان العرب، ابن منظور، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
30- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي بيروت، ط2، 1405 هـ.
31- المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، دار إحياء التراث العربي، ط2، 1406 هـ.
32- صحيح الأدب المفرد، محمد ناصر الدين الألباني، دار الصديق، توزيع مؤسسة الريان، ط1، 1421 هـ.
33- صحيح الترغيب والترهيب، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، ط1، 1421 هـ.
34- الأخلاق والواجبات المغربي.

الفهرس
المقدمة 5
تمهيد حول تفاضل العبادات 8
القسم الأول
الحديث الأول: "خيرية ركعتي الفجر" 11
الحديث الثاني: "خيرية صفوف الرجال والنساء في الصلاة" 12
الحديث الثالث: "خيرية تسوية الصفوف في الصلاة" 14
الحديث الرابع:"خيرية الامتناع عن المرور بين يدي المصلي وسترته" 16
الحديث الخامس:"خيرية التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلاة" 20
الحديث السادس:"خيرية تعلم القرآن وتعليمه" 24
الحديث السابع:"خيرية الإنفاق في سبيل الله" 26
الحديث الثامن:"خيرية الصدقة عن ظهر غنى" 28
الحديث التاسع:"خيرية الرباط والغدوة والروحة في سبيل الله" 32
الحديث العاشر:"خيرية إطعام الطعام وإفشاء السلام" 35
الحديث الحادي عشر:"خيرية حسن الخلق" 38
الحديث الثاني عشر:"خيرية الصفح والعفو وعدم الهجر" 43
الحديث الثالث عشر:"خيرية كف اللسان واليد عن المسلمين" 45
الحديث الرابع عشر:"خيرية حسن الخلق مع الأهل" 48
الحديث الخامس عشر:"خيرية حسن قضاء الدين" 49
الحديث السادس عشر:"خيرية خُلق الحياء" 51
الحديث السابع عشر:"خيرية الكسب وعمل اليد" 55
الحديث الثامن عشر:"خيرية التيسير في المهر" 57
الحديث التاسع عشر:"خيرية إغناء الورثة" 58
الحديث العشرون:"خيرية اجتناب الفتن" 61
القسم الثاني
الحديث الأول:"خير بقاع الأرض" 66
الحديث الثاني:"خير الدعاء" 66
الحديث الثالث:"خير الرزق" 66
الحديث الرابع:"خير الأسماء" 67
الحديث الخامس:"خير الشهادة" 67
الحديث السادس:"خير العمل" 67
الحديث السابع:"خير المجالس" 68
الحديث الثامن:"خير الناس" 68
الحديثان التاسع والعاشر:"خير النساء" 68
الحديث الحادي عشر:"خير الأصحاب" 69
الحديث الثاني عشر:"خير التمر" 69
الحديث الثالث عشر:"خير الثياب" 69
الحديث الرابع عشر:"خير الدين" 70
الحديث الخامس عشر:"خير الدواء" 70
الحديث السادس عشر:"خير ما ركبت إليه الرواحل" 71
الحديث السابع عشر:"خير مساجد النساء" 71
الحديث الثامن عشر:"خير ما يخلف الإنسان بعد وفاته" 71
الحديث التاسع عشر:"خير الصلاة" 72
الحديث العشرون:"خير الحجامة" 72
المراجــع 73
الفهرس 77

****






 
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:15 PM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "